موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ:


الوصيَّةُ: هيَ طَلَبُ المَرءِ بَراءةَ ذِمَّتِه مِن حُقوقِ اللهِ تعالى والعِبادِ، أو هيَ تَمليكٌ مُضافٌ إلى ما بَعدَ المَوتِ بطَريقِ التَّبَرُّعِ في العَينِ والمَنافِعِ جَميعًا [138] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) للعلاء السمرقندي (3/ 205، 206)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/ 459)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 66). .
وشُرِعَت لحِكَمٍ؛ منها:
1- التَّمكينُ مِن العملِ الصالحِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَحتاجُ إلى أنْ يَختِمَ عمَلَه بالقُربةِ، وأنْ يَتدارَكَ ما فرَطَ في حَياتِه، فشُرِعَت الوصيَّةُ تَدارُكًا لِمَا فاتَهُ [139] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/330)، ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (6/182). .
2- مُكافأةُ مَن أسْدى للمَرْءِ مَعروفًا، وصِلةُ الرَّحِمِ والأقاربِ غَيرِ الوارثينَ، وسَدُّ خَلَّةِ المحتاجينَ، وتَخفيفُ الكرْبِ عن الضُّعفاءِ والبؤساءِ والمساكينِ؛ وذلك بشرْطِ الْتِزامِ المعروفِ أو العدْلِ، وتجنُّبِ الإضرارِ في الوصيَّةِ [140] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (6/182)، ((الموسوعة الكويتية)) (43/223). .
هذا، وقد قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 180-182] .
(أي: فُرِضَ عليكم [141] قال الشوكاني: (وقد اتَّفَق أهلُ العلمِ على وجوبِ الوصِيَّةِ على مَنْ عليه دَيْنٌ أوْ عندَه وديعَةٌ أوْ نحوُها. وأمَّا مَنْ لم يَكُنْ كذلك فذهَب أكثرُهم إلى أنَّها غيرُ واجبةٍ عليه سواءٌ كان فقيرًا أوْ غَنِيًّا وقال طائفةٌ: إِنَّها واجبةٌ...  وقد اخْتَلَف أهلُ العلمِ في هذه الآيةِ هل هي مُحْكَمةٌ أو مَنْسوخَةٌ؟ فذَهَب جماعَةٌ إِلى أَنَّها مُحْكَمةٌ، قالوا: وهي وإنْ كانت عامَّةً فمَعْناها الخصوصُ. والمرادُ بها مِن الوالِدَيْنِ مَنْ لا يَرِثُ كالأبويْنِ الكافِرَيْنِ ومَنْ هو في الرِّقِّ، ومِن الأقربينَ مَن عَدا الوَرَثَةِ مِنهم. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَع كلُّ مَنْ نحفظُ عنه مِنْ أهلِ العلمِ على أنَّ الوَصيةَ للوالدينِ الذين لا يَرِثانِ، والأقْرِباءِ الَّذينَ لا يَرِثونَ جائِزَةٌ. وقالَ كثيرٌ مِنْ أهلِ العلمِ: إنَّها منسوخةٌ بآيةِ المواريثِ معَ قولِه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" ... وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّه نَسخَ الوُجوبَ وَبقي النَّدْبُ، ورُوِي عن الشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ ومالِكٍ). ((فتح القدير)) (1/ 205). وقال السعدي: ( واعلمْ أنَّ جمهورَ المفسِّرينَ يَرونَ أنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بآيةِ المواريثِ، وبعضُهم يرَى أنَّها في الوالدينِ والأقربينَ غيرِ الوارثينَ، معَ أنَّه لم يدلَّ على التَّخصيصِ بذلك دليلٌ، والأحسنُ في هذا أن يقالَ: إنَّ هذه الوصيةَ للوالدينِ والأقربينَ مجملةٌ، ردَّها الله تعالى إلى العرفِ الجاري. ثمَّ إنَّ الله تعالى قدَّر للوالدينِ الوارثينِ وغيرِهما مِن الأقاربِ الوارثينَ هذا المعروفَ في آياتِ المواريثِ، بعدَ أنْ كان مجملًا وبقِي الحكمُ فيمَن لم يرثوا مِن الوالدينِ الممنوعينِ مِن الإرثِ وغيرِهما ممَّن حُجِب بشخصٍ أو وصفٍ، فإنَّ الإنسانَ مأمورٌ بالوصيةِ لهؤلاء وهم أحقُّ النَّاسِ ببرِّه، وهذا القولُ تتفقُ عليه الأمةُ، ويحصلُ به الجمعُ بينَ القولينِ المتقدمينِ؛ لأنَّ كلًّا مِن القائلين بهما، كلٌّ منهم لحظَ ملحظًا، واختلف الموردُ. فبهذا الجمعِ، يحصلُ الاتفاقُ، والجمعُ بينَ الآياتِ؛ لأنَّه مهما أمكَن الجمعُ كان أحسنَ مِن ادِّعاءِ النَّسخِ، الذي لم يدلَّ عليه دليلٌ صحيحٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 85). وقال ابنُ عثيمين: (واختلَف العلماءُ ــــ رحِمهم الله ــــ هل هذا منسوخٌ بآياتِ المواريثِ؛ أم هو محكمٌ، وآياتُ المواريثِ خُصِّصت؟ على قولينِ؛ فأكثرُ العلماءِ على أنَّه منسوخٌ؛ ولكن القولَ الراجحَ أنَّه ليس بمنسوخٍ؛ لإمكانِ التخصيصِ؛ فيقالُ: إن قوله تعالى: للوالدين والأقربين مخصوص بما إذا كانوا وارثين؛ بمعنى أنهم إذا كانوا وارثين فلا وصية لهم اكتفاءً لما فرضه الله لهم من المواريث؛ وتبقى الآية على عمومها فيمن سوى الوارث). ((تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة)) (2/ 306). -أيُّها المؤمنون- إذا أتَتْكم أسبابُ الموت ومقدِّماتُه، وكان لديكم مالٌ: أنْ تعهَدوا ببعضِ هذا المال إلى الوالديْنِ اللَّذيْن لا يرثان لمانع، وإلى الأقارب الَّذين لا يرثون، وذلك مِن غير إسرافٍ ولا تقتير، ولا اقتصارٍ على الأبعدِ دون الأقرب، بل يُرتَّبون على القُربِ والحاجة، ودون إجحافٍ بالوَرَثةِ، فلا تُتجاوَزُ الوصيةُ لأولئك بأكثرَ من ثُلُث المال، وهذا أمرٌ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على المتَّصفين بالتَّقوى.
عن أبي أمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: «سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في خطبتهِ عامَ حجةِ الوداعِ: إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى، قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيةَ لوارثٍ» [142] أخرجه أبو داود (2870)، والترمذي (2120) واللفظ له، وابن ماجه (2713) صححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/432)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2120)، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/215)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2870)، وحسنه الإمام أحمد كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (286)، وابن عبدالبر في ((التمهيد)) (24/439) .
وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: «تشكَّيتُ بمكةَ شكوى شديدةً، فجاءني النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يعودني، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إني أترك مالًا، وإني لم أترك إلا ابنةً واحدةً، فأوصي بثُلثَيْ مالي وأتركُ الثُّلثَ؟ فقال: لا. قلتُ: فأُوصي بالنِّصفِ وأترك النِّصفَ؟ قال: لا. قلتُ: فأوصي بالثلثِ وأترك لها الثُّلثين؟ قال: الثُّلثُ، والثُّلثُ كثيرٌ» [143] رواه البخاري (5659) واللفظ له، ومسلم (1628). .
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ
أي: فمَن غَيَّرَ الوصيَّةَ بَعدَما سَمِعَها مِنَ الموصي بأن زادَ فيها أو أنقَصَ أو غَيرَ ذلك، فقد تَعَلَّقَ الإثمُ به، أمَّا الموصي مِن غَيرِ جَنَفٍ ولا إثمٍ فقد بَرِئَت ذِمَّتُه، واللهُ تعالى يَسمَعُ ويَعلَمُ حالَ الِاثنَينِ -الموصي، والمُبَدِّلِ وصيَّتَه- ويُجازي كُلًّا بما يَستَحِقُّ.
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أي: فمَن خاف أن يَحيدَ الموصي في وصيَّتِه عنِ الحَقِّ، سَواءٌ عن غَيرِ قَصدٍ مِنه، أو مُتَعَمِّدًا؛ وذلك كَأن يوصيَ لغَيرِ الورَثةِ بأكثرَ مِن ثُلثِ مالِه، فهذا لا إثمَ عليه إن نَصَحَ الموصيَ في حَياتِه بتَبديلِ الوصيَّةِ، فبَدَّلَها، أو قامَ المُصلِحُ بتَبديلِها بَعدَ مَوتِه، فعَدَّلَها على الوَجهِ الشَّرعيِّ، وبِهذا يَزولُ فسادُ الوصيَّةِ، ويَزولُ مَعَه أيُّ شِقاقٍ وقَعَ بَينَ الموصي والورَثةِ، أو بَينَ الورَثةِ والموصى لَهم) [144] ((التفسير المحرر- الدرر السنية)) (1/ 504-506). .
وفيما يلي ذكرٌ لبعضِ آدابِ الوصيَّةِ:

انظر أيضا: