موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: النَّومُ ليلًا والاعتدالُ فيه


يَنبَغي النَّومُ ليلًا [55] أحسَنُ الأوقاتِ للنَّومِ اللَّيلُ؛ لأنَّه مُستَوفٍ لجَميعِ الشُّروطِ اللَّازِمةِ للهدوءِ والسَّكينةِ، فمَن يَعكِسُ وقتَ النَّومِ (أي: يَستَبدِلُ النَّهارَ باللَّيلِ) يُخالفُ بذلك القانونَ الصِّحِّيَّ، والنِّظامَ الطَّبيعيَّ، ولا تَحصُلُ له الرَّاحةُ المَطلوبةُ. يُنظر: ((آداب الفتى)) لعلي فكري (ص: 92، 93). ، مَعَ الاعتِدالِ في عَدَدِ ساعاتِ النَّومِ، وعَدَمِ الإفراطِ أوِ التَّفريطِ فيها [56] النَّومُ ضَروريٌّ للجِسمِ، يُقصَدُ به الرَّاحةُ مِنَ الأتعابِ، واستِعادةُ ما فقدَه الإنسانُ مِنَ القوَّةِ والنَّشاطِ، وقِلَّةُ النَّومِ وكَثرَتُه عنِ الحَدِّ الواجِبِ مُضِرَّانِ بالصِّحَّةِ. ولا يَلزَمُ أن تَكونَ مُدَّةُ النَّومِ طَويلةً، فيَطولَ السُّكونُ، ويَتَحَوَّلَ إلى خُمولٍ وكَسَلٍ، فيُظلِمَ العَقلُ ويَضعُفَ الجِسمُ. وكذلك يَجِبُ ألَّا يَمتَنِعَ الإنسانُ مِنَ النَّومِ مُدَّةً كافيةً؛ فإنَّ في قِلَّةِ النَّومِ وإطالةِ السَّهَرِ مَضارَّ كَثيرةً لا تَخفى. ويَجِبُ ضَبطُ أوقاتِ النَّومِ بحَيثُ يَستَطيعُ النُّهوضَ لصَلاةِ الفَجرِ، ويَنالُ قِسطَه اللَّازِمَ لراحةِ بَدَنِه، والنَّشاطِ في مَدرَسَتِه أو عَمَلِه. كَما أنَّه يَنبَغي ألَّا يَنامَ إلَّا هادِئَ البالِ والأفكارِ، خاليَ الذِّهنِ مِنَ الأكدارِ، أوِ التَّأثيراتِ الشَّديدةِ -مُفرِحةً كانت أو مُحزِنةً- وأن يُريحَ بالَه مِنَ الحِقدِ، والوَلوعِ بأمرٍ مِنَ الأُمورِ الموجِبةِ لشِدَّةِ الانشِغالِ؛ فبذلك يَحصُلُ على تَمامِ الرَّاحةِ. يُنظر: ((آداب الفتى)) لعلي فكري (ص: 92-96). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1-قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس: 67] .
2-قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [غافر: 61] .
3-قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47] .
4-قال تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ: 9 - 11] .
قَولُه: سُباتًا أي: قاطِعًا لحَرَكَتِكُم وأشغالِكُم، فتَستَريحُ به أبدانُكُم، وتَحصُلُ به راحَتُكُم مِن تَعَبِ سَعيِكُم وأعمالِكُم [57] يُنظر: ((التفسير المحرر)) (20/ 228) و(42/ 26). .
وفي هذا امتِنانٌ على النَّاسِ بخَلقِ نِظامِ النَّومِ فيهم لتَحصُلَ لهم راحةٌ مِن أتعابِ العَمَلِ الذي يَكدَحونَ له في نَهارِهم، فاللَّهُ تعالى جَعل النَّومَ حاصِلًا للإنسانِ بدونِ اختيارِه، فالنَّومُ يُلجِئُ الإنسانَ إلى قَطعِ العَمَلِ لتَحصُلَ راحةٌ لمَجموعِه العَصَبيِّ الذي رُكنُه في الدِّماغِ، فبتلك الرَّاحةِ يَستَجِدُّ العَصَبُ قُواه التي أوهَنَها عَمَلُ الحَواسِّ وحَرَكاتُ الأعضاءِ وأعمالُها، بحَيثُ لو تَعَلَّقَت رَغبةُ أحَدٍ بالسَّهَرِ لا بُدَّ له مِن أن يَغلِبَه النَّومُ، وذلك لُطفٌ بالإنسانِ، بحَيثُ يَحصُلُ له ما به مَنفعةُ مَدارِكِه قَسرًا عليه لئَلَّا يَتَهاوَنَ به؛ ولذلك قيل: إنَّ أقَلَّ النَّاسِ نَومًا أقصَرُهم عُمرًا، وكذلك الحَيَوانُ [58] ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (30/ 19). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1-عن أبي بَرزةَ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَكرَهُ النَّومَ قَبلَ العِشاءِ، والحَديثَ بَعدَها)) [59] أخرجه البخاري (568) واللفظ له، ومسلم (647). .
قال عياضٌ: (أمَّا كَراهةُ الحَديثِ بَعدَها فلِما يُؤَدِّي إلى السَّهَرِ، ومَخافةِ غَلبةِ النَّومِ لذلك آخِرَ اللَّيلِ، وفوتِ صَلاةِ الصُّبحِ في الجَماعةِ أو في وَقتِها، أوِ النَّومِ عن قيامِ اللَّيلِ وذِكرِ اللهِ فيه، ولأنَّ الحَديثَ والسَّهَرَ باللَّيلِ يوجِبُ الكَسَلَ بالنَّهارِ عَمَّا تَجِبُ الحُقوقُ فيه مِنَ الطَّاعاتِ ومَصالِحِ الدُّنيا والدِّينِ، وقد جَعَل اللهُ اللَّيلَ سَكَنًا كَما قال تعالى: لِبَاسًا [الفرقان: 47] أي: سَكَنًا، وكَما قال: لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67] ، وأُبيحَ الحَديثُ والسَّهَرُ فيه لِما فيه مَصلحةٌ، أو طَريقُ مَبَرَّةٍ وخَيرٍ كالمُسافِرِ والعَروسِ، ومَعَ الضَّيفِ ومُدارَسةِ العِلمِ، ونَحوِ هذا مِن سُبُلِ الخَيرِ) [60] ((إكمال المعلم)) (2/ 612، 613). وينظر منه: (3/ 126)، و((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/ 292، 293)، ((الأذكار)) للنووي (ص: 372، 373)، ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 485)، ((شرح مسلم)) للنووي (5/ 146)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 49، 73). وقال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: «وكان يَكرَهُ النَّومَ قَبلَها والحَديثَ بَعدَها»؛ لأنَّ النَّومَ قَبلَها قد يُؤَدِّي إلى إخراجِها عن وقتِها مُطلقًا أو عنِ الوقتِ المُختارِ، والسَّمَرَ بَعدَها قد يُؤَدِّي إلى النَّومِ عنِ الصُّبحِ أو عن وقتِها المُختارِ أو عن قيامِ اللَّيلِ، وكان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَضرِبُ النَّاسَ على ذلك، ويَقولُ: "أسَمَرًا أوَّلَ اللَّيلِ ونَومًا آخِرَه؟!" وإذا تَقَرَّرَ أنَّ عِلَّةَ النَّهيِ ذلك فقد يفرقُ فارِقٌ بَينَ اللَّيالي الطِّوالِ والقِصارِ، ويُمكِنُ أن تُحمَلَ الكَراهةُ على الإطلاقِ حَسمًا للمادَّةِ). ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 73). .
2-عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألم أُخبَرْ أنَّك تَقومُ اللَّيلَ وتَصومُ النَّهارَ؟ قُلتُ: إنِّي أفعَلُ ذلك، قال: فإنَّك إذا فعَلتَ ذلك هَجَمَت عَينُك، ونَفِهَت نَفسُك، وإنَّ لنَفسِك حَقًّا، ولأهلِك حَقًّا، فصُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ)) [61] أخرجه البخاري (1153) واللَّفظُ له، ومسلم (1159). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَوله: «ألم أُخبَرْ...» فيه أنَّ الحُكمَ لا يَنبَغي إلَّا بَعدَ التَّثَبُّتِ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكتَفِ بما نُقِل له عن عَبدِ اللَّهِ حتَّى لقيَه واستَثبَتَه فيه؛ لاحتِمالِ أن يَكونَ قال ذلك بغَيرِ عَزمٍ، أو عَلَّقَه بشَرطٍ لم يَطَّلِعْ عليه النَّاقِلُ، ونَحوِ ذلك.
قَولُه: «هَجَمَت عَينُك» بفتحِ الجيمِ، أي: غارَت أو ضَعُفَت لكَثرةِ السَّهَرِ.
قَولُه: «نَفِهَت» بنونٍ ثُمَّ فاءٍ مَكسورةٍ، أي: كَلَّت.
قَولُه: «وإنَّ لنَفسِك عليك حَقًّا» أي: تُعطيها ما تَحتاجُ إليه ضَرورةُ البَشَريَّةِ مِمَّا أباحَه اللهُ للإنسانِ مِنَ الأكلِ والشُّربِ والرَّاحةِ التي يَقومُ بها بَدَنُه؛ ليَكونَ أعوَنَ على عِبادةِ رَبِّهـ) [62] ((فتح الباري)) (3/ 38). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (وكَما أنَّ كَثرةَ النَّومِ مُورِثةٌ للآفاتِ، فمُدافعَتُه وهَجرُه مورِثٌ لآفاتٍ أُخرى عِظامٍ: مِن سوءِ المِزاجِ ويُبسِه، وانحِرافِ النَّفسِ، وجَفافِ الرُّطوباتِ المُعينةِ على الفَهمِ والعَمَلِ، ويورِثُ أمراضًا مُتلِفةً لا يَنتَفِعُ صاحِبُها بقَلبِه ولا بَدَنِه مَعَها، وما قامَ الوُجودُ إلَّا بالعَدلِ، فمَنِ اعتَصَمَ به فقد أخَذَ بحَظِّه مِن مَجامِعِ الخَيرِ) [63] ((مدارج السالكين)) (1/ 457). .

انظر أيضا: