موسوعة الآداب الشرعية

حاديَ عَشَرَ: الرُّجوعُ إلى الحَقِّ والاعتِرافُ بالخَطَأِ إذا تَبَيَّنَ له

على المُناظِرِ إذا تَبَيَّنَ له الحَقُّ أن يُبادِرَ إلى قَبولِه، ولا يَستَنكِفَ مِن تَركِ رَأيِه إذا تَبَيَّنَ له خَطَؤُه [2509] ((فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (ص: 222)، ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص 570)، ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 373). ويُنظر نماذج على الرجوع إلى الحق والإقرار به في ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص: 571). .
قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (فيَنبَغي لمَن لَزِمَته الحُجَّةُ، ووضَحَت له الدَّلالةُ، أن يَنقادَ لَها، ويَصيرَ إلى موجِباتِها؛ لأنَّ المَقصودَ مِنَ النَّظَرِ والجَدَلِ طَلَبُ الحَقِّ، واتِّباعُ تَكاليفِ الشَّرعِ، وقد قال اللهُ تَعالى: الَّذِينَ يَستَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الذينَ هَداهمُ اللهُ وأولَئِكَ هم أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] ) [2510] ((الفقيه والمتفقهـ)) (2/ 112). .
وقال ابنُ حَزمٍ: (ناظَرتُ رَجُلًا مِن أصحابنا في مَسألةٍ فعَلَوتُه فيها... وانفضَّ المَجلسُ على أنِّي ظاهرٌ، فلَمَّا أتَيتُ مَنزِلي حاكَ في نَفسي مِنها شَيءٌ، فتَطَلَّبتُها في بَعضِ الكُتُبِ فوجَدتُ بُرهانًا صَحيحًا يُبَيِّنُ بُطلانَ قَولي وصِحَّةَ قَولِ خَصمي، وكان مَعي أحَدُ أصحابِنا مِمَّن شَهدَ ذلك المَجلسَ، فعَرَّفتُه بذلك، ثُمَّ إنِّي قد عَلَّمتُ على المَكانِ مِنَ الكِتابِ، فقال لي: ما تُريدُ؟ فقُلتُ: احمِلْ هذا الكِتابَ واعرِضْه على فُلانٍ وأعلِمْه بأنَّه المُحِقُّ، وأنِّي المُبطِلُ، وأنِّي راجِعٌ إلى قَولِه. فهَجَمَ عليه مِن ذلك أمرٌ مُبهِتٌ، وقال لي: وتَسمَحُ نَفسُكَ بهذا؟! فقُلتُ له: نَعَم، ولَو أمكَنَني ذلك في وقتي هذا ما أخَّرتُه إلى غَدٍ) [2511] ((التقريب لحد المنطق)) (ص: 194). .
وقال ابنُ حَزمٍ أيضا: (وإنَّما يجِبُ على العاقلِ أن يُثبتَ ما أثبتَ البُرهانُ، ويُبطِلَ ما أبطَل البُرهانُ، ويقفَ فيما لم يُثْبتْه ولا أبطَله برهانٌ حتَّى يلوحَ له الحقُّ) [2512] ((التقريب لحد المنطق)) (ص: 193). .
وقال الشَّوكانيُّ: (فإنَّ الرُّجوعَ إلى الحَقِّ يوجِبُ له مِنَ الجَلالةِ والنَّبالةِ وحُسنِ الثَّناءِ ما لا يَكونُ في تَصميمِه على الباطِلِ، بَل ليس في التَّصميمِ على الباطِلِ إلَّا مَحضُ النَّقصِ له والإزراءِ عليه والاستِصغارِ لشَأنِه، فإنَّ مَنهَجَ الحَقِّ واضِحُ المَنارِ يَفهَمُه أهلُ العِلمِ ويَعرِفونَ بَراهينَه، ولا سيَّما عِندَ المُناظَرةِ، فإذا زاغَ عَنه زائِغٌ تَعَصُّبًا لقَولٍ قد قاله أو رَأيٍ رَآه، فإنَّه لا مَحالةَ يَكونُ عِندَ مَنِ اطَّلَعَ على ذلك مِن أهل العِلمِ أحَدَ رَجُلَينِ: إمَّا مُتَعَصِّبٌ مُجادِلٌ مُكابرٌ إن كان له مِنَ الفهمِ والعِلمِ ما يُدرِكُ به الحَقَّ ويَتَمَيَّزُ به الصَّوابُ، أو جاهلٌ فاسِدُ الفهمِ باطِلُ التَّصَوُّرِ إن لَم يَكُنْ له مِنَ العِلمِ ما يَتَوصَّلُ به إلى مَعرِفةِ بُطلانِ ما صَمَّمَ عليه وجادَلَ عَنه، وكِلا هَذَينِ المَطعَنَينِ فيه غايةُ الشَّينِ. وكَثيرًا ما تَجِدُ الرَّجُلَينِ المُنصِفينِ مِن أهل العِلمِ قد تَبارَيا في مَسألةٍ وتَعارَضا في بَحثٍ، فبَحَثَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما عَن أدِلَّةِ ما ذَهَبَ إليه، فجاءا بالمُتَرَدِّيةِ والنَّطيحةِ على عِلمٍ مِنه بأنَّ الحَقَّ في الجانِبِ الآخَرِ، وأنَّ ما جاءَ به لا يُسمِنُ ولا يُغني مِن جوعٍ، وهذا نَوعٌ مِنَ التَّعَصُّبِ دَقيقٌ جِدًّا يَقَعُ فيه كَثيرٌ مِن أهلِ الإنصافِ، ولا سيَّما إذا كان بمَحضَرٍ مِنَ النَّاسِ، وأنَّه لا يَرجِعُ المُبطِلُ إلى الحَقِّ إلَّا في أندَرِ الأحوالِ، وغالبُ وُقوعِ هذا في مَجالسِ الدَّرسِ ومَجامِعِ أهلِ العِلمِ) [2513] ((أدب الطلب ومنتهى الأدب)) (ص: 89). .
قال الغَزاليُّ في آفاتِ المُناظَرةِ: (ومِنها الاستِكبارُ عَنِ الحَقِّ وكَراهَتُه والحِرصُ على المُماراةِ فيه، حَتَّى إنَّ أبغَضَ شَيءٍ إلى المُناظِرِ أن يَظهَرَ على لسانِ خَصمِه الحَقُّ، ومهما ظَهَرَ تَشَمَّرَ لجَحدِه وإنكارِه بأقصى جُهدِه، وبَذَلَ غايةَ إمكانِه في المُخادَعةِ والمَكرِ والحيلةِ لدَفعِه، حَتَّى تَصيرَ المُماراةُ فيه عادةً طَبيعيَّةً، فلا يَسمَعُ كَلامًا إلَّا ويَنبَعِثُ مِن طَبعِه داعيةُ الاعتِراضِ عليه حَتَّى يَغلبَ ذلك على قَلبِه في أدِلَّةِ القُرآنِ وألفاظِ الشَّرعِ، فيَضرِبَ البَعضَ مِنها بالبَعضِ، والمِراءُ في مُقابَلةِ الباطِلِ مَحذورٌ) [2514] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 47). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (حَذارِ حَذارِ مِن ... رَدِّ الحَقِّ لمُخالَفتِه هَواكَ؛ فإنَّكَ تُعاقَبُ بتَقليبِ القَلبِ ورَدِّ ما يَرِدُ عليكَ مِنَ الحَقِّ رَأسًا، ولا تَقبَلُه إلَّا إذا بَرَزَ في قالَبِ هَواكَ، قال تَعالى: وَنُقَلِّبُ أفئِدَتَهم وأبصارَهُمْ كَمَا لَم يُؤمِنوا به أوَّلَ مَرَّةٍ فعاقَبَهم على رَدِّ الحَقِّ أوَّلَ مَرَّةٍ بأن قَلَّبَ أفئِدَتَهم وأبصارَهم بَعدَ ذلك [2515] ((بدائع الفوائد)) (3/ 180). .

انظر أيضا: