موسوعة الآداب الشرعية

ثانيَ عَشَرَ: الحَذَرُ مِنَ العُجبِ

يَنبَغي للمُناظِرِ ألَّا يُصيبَه إعجابٌ بنَفسِه، فالمُناظَراتُ تُحَرِّكُ دَواعيَ العُجبِ والفَخرِ والمُباهاةِ [2516] ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص:  559). .
قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (ويَنبَغي أن لا يَكونَ مُعجَبًا بكَلامِه مَفتونًا بجِدالِه؛ فإنَّ الإعجابَ ضِدُّ الصَّوابِ، ومِنه تَقَعُ العَصَبيَّةُ، وهو رَأسُ كُلِّ بَليَّةٍ) [2517] ((الفقيه والمتفقهـ)) (2/ 57). .
وقال مَسروقٌ: (بحَسْبِ امرِئٍ مِنَ العِلمِ أن يَخشى اللَّهَ، وبحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الجَهلِ أن يُعجَبَ بعِلمِهـ) [2518] ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (2/ 57). .
عَن كَعبٍ أنَّه قال، وأتاه رَجُلٌ مِمَّن يَتَّبعُ الأحاديثَ: (اتَّقِ اللَّهَ، وارضَ بدونِ الشَّرَفِ مِنَ المَجلسِ، ولا تُؤذيَنَّ أحَدًا؛ فإنَّه لَو مَلَأ عِلمُكَ ما بَينَ السَّماءِ والأرضِ مَعَ العُجبِ ما زادَكَ اللهُ به إلَّا سَفالًا ونَقصًا) [2519] ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (2/ 58). .
قال عَبدُ اللهِ بنُ المُعتَزِّ: (العُجبُ شَرُّ آفاتِ العَقلِ) [2520] ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (2/ 58). .
جُملةٌ مِنَ الآداب المُتَعَلِّقةِ بطَريقةِ الجِدالِ والمُناظَرةِ:
1- الاحتِرازُ عنِ الإطنابِ في غير فائدةٍ والإيجازِ المخلِّ
من الآدابِ: الاحتِرازُ عن إطالةِ الكَلامِ في غَيرِ فائِدةٍ، وعنِ اختِصارِه اختِصارًا يُخِلُّ بفَهمِ المَقصودِ مِنَ الكَلامِ [2521] يُنظر: ((التقريب لحد المنطق)) لابن حزم (ص: 186)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 274)، ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 373)، ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص: 564). قال الخطيبُ البغداديُّ: (ويكونُ كلامُه يسيرًا جامعًا بليغًا؛ فإنَّ التَّحَفُّظَ من الزَّلَلِ مع الإقلالِ دونَ الإكثارِ، وفي الإكثارِ أيضًا ما يُخفي الفائِدةَ، ويُضيعُ المقصودَ، ويورِثُ الحاضِرينَ الملَلَ). ((الفقيه والمتفقهـ)) (2/ 53). .
2- تَجَنُّبُ الغَرابةِ والإجمالِ:
يَنبَغي اجتِنابُ غَرابةِ الألفاظِ وإجمالِها [2522] يُنظر: ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 274). .
3- تَركُ المُداخَلةِ في كَلامِ خَصمِه حتَّى يَفرُغَ منه
يَنبَغي تَركُ المُداخَلةِ، والانتِظارُ والإمهالُ إلى أن يَأتيَ الطَّرَفُ الآخَرُ على آخِرِ كَلامِه، ويَنتَظِمَ آخِرَ مَعانيه [2523] يُنظر: ((التقريب لحد المنطق)) لابن حزم (ص: 186)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 274)، ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 373). قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (وإذا وقَعَ له شَيءٌ في أوَّلِ كَلامِ الخَصمِ فلا يَعجَلْ بالحُكمِ به، فرُبَّما كان في آخِرِه ما يُبَيِّنُ أنَّ الغَرَضَ بخِلافِ الواقِعِ له، فيَنبَغي أن يَثبُتَ إلى أن يَنقَضيَ الكَلامُ، وبهذا أدَّبَ اللهُ تَعالى نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم في قَولِه تَعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]). ((الفقيه والمتفقهـ)) (2/ 59). .
4- تَركُ التَّعَرُّضِ لكَلامِ خَصمِه قَبلَ فَهمِه
يَنبَغي التَّحَرُّزُ عنِ التَّعَرُّضِ لكَلامِ الطَّرَفِ الآخَرِ قَبلَ فَهمِ مُرادِه مِن كَلامِه تمامًا، وتلخيصه إن كان فيه طولٌ [2524] يُنظر: ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 274)، ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 373). قال الجُوَينيُّ: (وعليكَ بمُراعاةِ كَلامِ الخَصمِ، وتَفهُّمِ مَعانيه على غايةِ الحَمدِ والاستِقصاءِ، فإنَّ فيه أمانًا مِنِ اضطِرابِ تَرتيبِ فُصولِ الكَلامِ عليكَ، فيَسهلُ عليكَ عِندَ ذلك وضعُ كُلِّ شَيءٍ مَوضِعَه. وفيه أيضًا أمانٌ مِن تَلبيسِ الخَصمِ والذَّهابِ عَن تَزويرِه، ولا تُمَكِّنْه مِن جَمعِ القُصورِ عليكَ في الأسئِلةِ والأجوِبةِ؛ فإنَّه يُؤَدِّي إلى انتِشارِ الكَلامِ واختِلاطِ مَواضِعِ النُّكتةِ، والتِباسِ مَوضِعِ الحَقِّ بغَيرِه، وإن طَوَّلَ عليكَ كَلامَه بمُباراتِه الطَّويلةِ فلَخِّصْ مِن جَميعِها مَوضِعَ الحاجةِ إلَيه فتَحصُرُه عليه، ثُمَّ تَكَلَّمْ فيه بما يَليقُ به؛ لأنَّكَ إذا فعَلتَ ذلك زالَ ما أوهَمَ به الحاضِرينَ مِن إيرادِ العُلومِ الكَثيرةِ. وإذا لَم تَحصُرْ عليه مَوضِعَ الفائِدةِ وَهِمَ عليهم تَقصيرُكَ، ولأنَّكَ إذا أحصَرتَ عليه في كَلامِه ألفاظَه ومَعانيَه وأخَذتَ إقرارَه في كُلِّ ذلك، فقُلتَ: ألَستَ قُلتَ كَذا، ومَعناه كَذا، لَم يُمكِنْه الهَرَبُ مِمَّا يَلزَمُه عليه مِن كَلامِكَ ولا الرُّجوعُ. وإذا لَم تَفعَلْ ذلك رُبَّما ناكَرَكَ عِندَ الإلزامِ، فتَسُدُّ مَواضِعَ الخَلَلِ حينَ تنبهُ له عِندَ الإلزامِ). ((الكافية في الجدل)) (ص: 535). .
5- التِزامُ المَوضوعيَّةِ وتَجَنُّبُ ما لا دَخلَ له في المَقصودِ
يَنبَغي أن يَكونَ كَلامُ الطَّرَفينِ مُلائِمًا للمَوضوعِ، ليسَ فيه خُروجٌ عَمَّا هما بصَدَدِه [2525] يُنظر: ((التقريب لحد المنطق)) لابن حزم (ص: 189، 192)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 274). قال الجُوَينيُّ: (ومِن ذلك ألَّا يورِدَ في كُلِّ مَوضِعٍ مِنَ الكَلامِ إلَّا قدرَ ما يَحتاجُ إلَيه؛ لأنَّكَ رُبَّما تورِدُه فيُفسِدُه عليكَ الخَصمُ في غَيرِ مَوضِعِه؛ لأنَّه في غَيرِ مَوضِعِه، فيَصعُبُ عليكَ العَودُ إلَيه في مَوضِعِ الحاجةِ). ((الكافية في الجدل)) (ص: 536- 537). وقال محمَّد سيِّد طَنطاوي: (مِنَ الآدابِ التي جاءَت بها شَريعةُ الإسلامِ لتَنظيمِ الخِلافاتِ والمُحاوَراتِ بَينَ النَّاسِ حتَّى تَتَّضِحَ الحَقيقةُ، ويَتَوصَّلَ المُتَحاوِرونَ إلى النَّتيجةِ المرضيَّةِ: التِزامُ المَوضوعيَّةِ، ونَعني بها عَدَمَ الخُروجِ عنِ المَوضوعِ الذي هو مَحَلُّ النِّزاعِ أوِ الخِلافِ؛ فإنَّ آفةَ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ أنَّهم إذا ناقَشوا غَيرَهم في مَوضوعٍ مُعَيَّنٍ تَعمَّدوا أن يَسلُكوا ما يُسَمَّى في هذه الأيَّامِ بخَلطِ الأوراقِ، بحَيثُ لا يَدري العُقَلاءُ في أيِّ شَيءٍ هم مُختَلِفونَ مَعَ غَيرِهم، وتَتوهُ الحَقيقةُ في خِضَمِّ هذه الفُروعِ التي لا تَكادُ تَعرِفُ لها أصلًا! إنَّك تَقرَأُ القُرآنَ الكَريمَ فتَرى كَثيرًا مِنَ المُجادَلاتِ والمُحاوَراتِ والخِلافاتِ التي دارت بَينَ الرُّسُلِ عَليهمُ السَّلامُ وبَينَ أقوامِهم، وتَرى أنَّ الرُّسُلَ عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ كان جَوابُهم على مُخالفيهم مُنتَزَعًا مِن أقوالِ هؤلاء المُخالِفينَ دونَ أيِّ خُروجٍ عن مَوضوعِ النِّزاعِ...). ((أدب الحوار في الإسلام)) (ص: 23، 24). .
6- عَدَمُ الخُروجِ مِن مَسألةٍ إلى أُخرى قَبلَ استيفاءِ الأولى
يَنبَغي تَركُ الخُروجِ مِن مَسألةٍ إلى أُخرى حتَّى يُستَوفى الكَلامُ في الأولى [2526] يُنظر: ((الجدل على طريقة الفقهاء)) لابن عقيل الحنبلي (ص: 2)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 274). .
7- أن يَكونَ لكِلا المُتَجادِلَينِ أوِ المُتَناظِرَينِ أصلٌ يَرجِعانِ إليه
لا تَتِمُّ المُناظَرةُ ويَحصُلُ المَقصودُ مِنها إلَّا إذا كان للمُتَناظِرَينِ أصلٌ يُقِرُّ به كُلُّ واحِدٍ مِنهما، فرَدُّ المُخالفِ إلى الحَقِّ والصَّوابِ لا يَحصُلُ إلَّا بدَليلٍ يُقِرُّ به [2527] ((فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (ص: 274)، ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص:  540). قال الكِنانيُّ: (كُلُّ مُتَناظِرَينِ على غَيرِ أصلٍ يَكونُ بَينَهما يَرجِعانِ إلَيه إذا اختَلَفا في شَيءٍ مِنَ الفُروعِ، فهما كالسَّائِرِ على غَيرِ الطَّريقِ، لا يَعرِفُ الحُجَّةَ فيَتَّبعُها ويَسلُكُها، وهو لا يَعرِفُ المَوضِعَ الذي يُريدُ فيَقصِدُه، ولا يَدري مِن أينَ جاءَ فيَرجِعُ يَطلُبُ الطَّريقَ فهو على ضَلالٍ أبَدًا، ولَكِنَّنا نُؤَصِّلُ بَينَنا أصلًا، فإذا اختَلَفنا في شَيءٍ مِنَ الفُروعِ رَدَدناه إلى الأصلِ، فإن وجَدناه فيه وإلَّا رَمَينا به ولَم نَلتَفِتْ إلَيهـ). ((الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن)) (ص: 31). وذَكَرَ الشَّاطِبيُّ (أنَّ الخَصمَينِ إمَّا أن يَتَّفِقا على أصلٍ يَرجِعانِ إلَيه أو لا، فإن لَم يَتَّفِقا على شَيءٍ لَم يَقَعْ بمُناظَرَتِهما فائِدةٌ بحالٍ). ((الموافقات)) (5/ 415). وقال أيضًا: (إن كان المُناظِرُ مُخالفًا له في الكُلِّيَّاتِ التي يَنبَني عليها النَّظَرُ في المَسألةِ فلا يَستَقيمُ له الاستِعانةُ به، ولا يَنتَفِعُ به في مُناظَرَتِه؛ إذ ما مِن وجهٍ جُزئيٍّ في مَسألَتِه إلَّا وهو مَبنيٌّ على كُلِّيٍّ، وإذا خالَف في الكُلِّيِّ ففي الجُزئيِّ المَبنيِّ عليه أَولى؛ فتَقَعُ مُخالَفتُه في الجُزئيِّ مِن جِهَتَينِ، ولا يُمكِنُ رُجوعُها إلى مَعنًى مُتَّفَقٍ عليه؛ فالاستِعانةُ مَفقودةٌ). ((الموافقات)) (5/ 412). .
8- البَدءُ بنُقطةِ الاتِّفاقِ
يَنبَغي أن يَكونَ البَدءُ بالجَوانِبِ المُتَّفَقِ عليها بَينَ الطَّرَفينِ إذا كان الهَدَفُ مِنَ الجِدالِ هِدايةَ الآخَرِ وتَقريبَه إلى الحَقِّ أو هدايةَ أتباعِه [2528] ((فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (ص: 283). .
9- لا يُرَدُّ الباطِلُ بباطِلٍ
يَنبَغي ألَّا يُدفعَ باطِلٌ بباطِلٍ، وإنَّما يُدفعُ بالحَقِّ؛ ففيه غُنيةٌ عَنِ الباطِلِ [2529] يُنظر: ((فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (ص: 314)، ((الحوار أصوله المنهجية وآدابه السلوكية)) لأحمد الصويان (ص: 113)، ((الرد على المخالف من أصول الإسلام)) لبكر أبو زيد (ص: 56). قال ابنُ تَيميَّةَ: (قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، وليس مِنَ الأحسَنِ أن يُدفعَ الباطِلُ بالباطِلِ). ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 394). وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (لا بُدَّ أن تُحرَسَ السُّنَّةُ بالحَقِّ والصِّدقِ والعَدلِ، لا تُحرَسُ بكَذِبٍ ولا ظُلمٍ، فإذا رَدَّ الإنسانُ باطِلًا بباطِلٍ، وقابَلَ بدعةً ببدعةٍ، كان هذا مِمَّا ذَمَّه السَّلَفُ والأئِمَّةُ). ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 182). وقال أيضًا: (ومَن أرادَ أن يُناظِرَ مُناظَرةً شَرعيَّةً بالعَقلِ الصَّريحِ فلا يَلتَزِمْ لَفظًا بِدعيًّا، ولا يُخالفْ دَليلًا عَقليًّا ولا شَرعيًّا، فإنَّه يَسلُكُ طَريقَ أهلِ السُّنَّةِ والحَديثِ والأئِمَّةِ). ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 251). وقال ابنُ حزمٍ: (واعلَمْ أنَّ مِن الخطأ معارضةَ الخطأ بالخطأ في المناظرةِ مثل أنْ يقولَ السَّائلُ للمسئولِ: أنتَ تقولُ كذا. أو: لِمَ تقولُ كذا؟ فيقولَ المُجيبُ: وأنتَ تقولُ أيضًا كذا. أو: لأنَّك أنتَ أيضًا تقولُ كذا، فيَأتيه بمثلِ ما أنكَر هو عليه أو أشنعَ، فهذا كلُّه خطأٌ فاحشٌ وعارٌ عظيمٌ واقتداءٌ بالخطأ). ((التقريب لحد المنطق)) (ص: 190). .
10- الوُضوحُ مَطلوبٌ ما أمكَنَ
يَنبَغي الوُضوحُ في الألفاظِ والعِباراتِ والأساليبِ -دونَ الألفاظِ المُجمَلةِ- والاستِدلالُ بالأدِلَّةِ الواضِحةِ [2530] ((فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (326). .
11- تَقديمُ الأقوى مِنَ الحُجَجِ
يَنبَغي البَداءةُ بالأقوى والأوضَحِ مِنَ الحُجَجِ والأدِلَّةِ؛ لأنَّ المَقصودَ إظهارُ الحَقِّ وتَبيينُه، فيُسلَكُ أقرَبُ الطُّرُقِ إلى ذلك [2531] ينظر: ((الرد على المخالف من أصول الإسلام)) لبكر أبو زيد (ص: 66)، ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص: 561). قال الجُوَينيُّ: (وإيَّاكَ أن تَتَعَلَّقَ عِندَ الاستِدلال إلَّا بأقوى ما في المَسألةِ، ولا يَغُرَّنَّكَ ضَعفُ السَّائِل، فرُبَّما يَكونُ في الحاضِرينَ مَن يضيقُ بقوَّتِه في العِلمِ عليكَ الدُّنيا، وقد يَتَّضِحُ للخَصمِ الضَّعيفِ عِندَ التَّعَلُّقِ بالشَّيءِ الذي لا يَقوى في الاحتِجاجِ ما يَصعُبُ عليكَ الخُروجُ مِنه، ولأنَّكَ إذا تَعَلَّقتَ بأقوى ما في المَسألةِ راحَ بَعدَه ما هو أضعَفُ مِنه، وإذا تَعَلَّقتَ بالضَّعيفِ احتَجتَ بَعدَه إلى وضعِ القَويِّ مَوضِعَ الضَّعيفِ؛ فيَذهَبُ عِندَ ذلك رَونَقُ نَضرةِ الحَقِّ وبَهائِها، ولأنَّكَ إذا قدَّمتَ الضَّعيفَ استَرذَلَ الحاضِرونَ كَلامَكَ، فيَضعُفُ خاطِرُكَ بَعدَه عَن إيرادِ ما هو أقوى مِنه إذا لَم يَستَحوِذوا في الأوَّلِ كَلامَكَ، فتَترُكُ جَميعَ ما تَقولُه عِندَهم؛ فلا تَظهَرُ نَضرةُ الحَقِّ، ولأنَّكَ إذا بَدَهتَ الخَصمَ بأقوى شَيءٍ في المَسألةِ ما بكَ في الاحتِجاجِ فتُؤَثِّرُ هَيبَتُه تلك في تَجَنُّبِه شُبهَتَه وتَقويةِ بدعَتِهـ). ((الكافية في الجدل)) (ص: 534). .
12- التِزامُ الطُّرُقِ الإقناعيَّةِ
يَنبَغي التِزامُ طُرُقِ الإقناعِ الصَّحيحةِ لإفحامِ الخَصمِ وإظهارِ عَجزِه، ومِن ذلك:
أ - الإقناعُ بتَقديمِ الحُجَّةِ والبُرهانِ والدَّليلِ لا بمُجَرَّدِ الكَلامِ.
ب- إثباتُ صِحَّةِ الدَّليلِ: ففي الرِّوايةِ إن كُنتَ ناقِلًا فالصِّحَّةُ، أو مُدَّعيًا فالدَّليلُ. وفي القياسِ: سَلامَتُه مِن قادِحٍ يُؤَثِّرُ فيه.
وفي الإجماعِ: تَوثيقُ ثُبوتِه وحِكايَتِه.
ج – دَلالَةُ الدَّليلِ على المَطلوبِ [2532]  يُنظر: ((مناهج الجدل في القرآن الكريم)) (ص: 447)، ((الرد على المخالف من أصول الإسلام)) لبكر أبو زيد (ص: 66). .
13- تحريرُ مَحَلِّ النِّزاعِ
يَنبَغي تَحريرُ مَحَلِّ النِّزاعِ؛ لأنَّ مَقصودَ الجِدالِ هو قَطعُ النِّزاعِ، وهذا لا يَتَأتَّى إلَّا باستِعمالِ الواضِحِ مِنَ الألفاظِ، واجتِنابِ المُجمَلِ مِنها [2533] ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص: 541). .
14- الرَّدُّ على الشُّبَهِ وتَفنيدُ أدِلَّةِ الخَصمِ وبَيانُ ما فيها مِن تَناقُضٍ
يَنبَغي بَيانُ شُبَه الخَصمِ، وإحكامُ نَقضِها، وكَشفُ زَيفِها [2534] ((الرد على المخالف من أصول الإسلام)) لبكر أبو زيد (ص: 65). ، وبيانُ ما فيها من تناقُضٍ [2535] قال ابنُ تيميَّةَ: (... إنَّ الدَّليلَ إن لَم تُقَرَّرْ مُقدِّماتُه ويُجابُ عَمَّا يُعارِضُها لَم يَتِمَّ). ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 49). وقال أيضًا: (... إنَّ المُبتَدِعَ الذي بَنى مَذهَبَه على أصلٍ فاسِدٍ مَتى ذَكَرتَ له الحَقَّ الذي عِندَكَ ابتِداءً أخَذَ يُعارِضُكَ فيه؛ لِما قامَ في نَفسِه مِنَ الشُّبهةِ، فيَنبَغي إذا كان المُناظِرُ مُدَّعيًا أنَّ الحَقَّ مَعَه أن يَبدَأ بهَدمِ ما عِندَه، فإذا انكَسَرَ وطَلَبَ الحَقَّ فأعطِه إيَّاه، وإلَّا فما دامَ مُعتَقِدًا نَقيضَ الحَقِّ لَم يَدخُلِ الحَقُّ إلى قَلبِه، كاللَّوحِ الذي كُتِبَ فيه كَلامٌ باطِلٌ، امحُه أوَّلًا، ثُمَّ اكتُب فيه الحَقَّ). ((مجموع الفتاوى)) (17/ 159). وقال الجوينيُّ: (ولا تُقَصِّرْ في تَنبيهِ الخَصمِ وإعلامِه ما تَرى مِن مُناقَضاتِه في كَلامِه، وهَكَذا إذا رَجَعَ فيما سَلَّمَ نَبَّهتَه عليه؛ لأنَّكَ إذا لَم تُعامِلْه بذلك تَرَكتَ مُعظَمَ المَقصودِ مِنَ الجَدَلِ، وعِندَ ذلك لا تَبينُ نُصرَتُكَ للحَقِّ). ((الكافية في الجدل)) (ص: 536).     .
فوائدُ:
جُملةٌ مِن آداب الجِدالِ والمُناظَرةِ مَنظومةً:
قال القَحطانيُّ في نونيَّتِه:
422- لا تُفنِ عُمرَكَ في الجِدالِ مُخاصِمًا
إنَّ الجِدالَ يُخِلُّ بالأديانِ
423- واحذَرْ مُجادَلةَ الرِّجالِ فإنَّها
تَدعو إلى الشَّحناءِ والشَّنَآنِ
424- وإذا اضطُرِرتَ إلى الجِدالِ ولَم تَجِدْ
لَكَ مَهرَبًا وتَلاقَتِ الصَّفَّانِ
425- فاجعَلْ كِتابَ اللهِ دِرعًا سابغًا
والشَّرعَ سَيفكَ وابدُ في المَيدانِ
426- والسُّنَّةَ البَيضاءَ دونَكَ جُنَّةً
واركَبْ جَوادَ العَزمِ في الجَولانِ
427- واثبُتْ بصَبرِكَ تَحتَ ألويةِ الهدى
فالصَّبرُ أوثَقُ عُدَّةِ الإنسانِ
428- واطعَنْ برُمحِ الحَقِّ كُلَّ مُعانِدٍ
للَّهِ دَرُّ الفارِسِ الطَّعَّانِ
429- واحمِلْ بسَيفِ الصِّدقِ حَملةَ مُخلصٍ
مُتَجَرِّدٍ للَّهِ غَيرِ جَبانِ
430- واحذَرْ بجُهدِكَ مَكرَ خَصمِكَ إنَّه
كالثَّعلَب البَرِّيِّ في الرَّوغانِ
431- أصلُ الجِدالِ مِنَ السُّؤالِ وفرعُه
حُسنُ الجَوابِ بأحسَنِ التِّبيانِ
432- لا تَلتَفِتْ عِندَ السُّؤالِ ولا تُعِدْ
لَفظَ السُّؤالِ كِلاهما عَيبانِ
433- وإذا غَلَبتَ الخَصمَ لا تَهزَأْ به
فالعُجبُ يُخمِدُ جَمرةَ الإحسانِ
434- فلَرُبَّما انهَزَمَ المُحارِبُ عامِدًا
ثُمَّ انثَنى قِسطًا على الفُرسانِ
435- واسكُتْ إذا وقَعَ الخُصومُ وقَعقَعوا
فلَرُبَّما ألقَوكَ في بحرانِ
436- ولَرُبَّما ضَحِكَ الخُصومُ لدَهشةٍ
فاثبُتْ ولا تَنكُلْ عَنِ البُرهانِ
437- فإذا أطالوا في الكَلامِ فقُلْ لَهم
إنَّ البَلاغةَ لُجِّمَت ببَيانِ
438- لا تَغضَبَنَّ إذا سُئِلتَ ولا تَصِحْ
فكِلاهما خُلُقانِ مَذمومانِ
439- وإذا انقَلَبتَ عَنِ السُّؤالِ مُجاوِبًا
فكِلاهما لا شَكَّ مُنقَطِعانِ
440- واحذَرْ مُناظَرةً بمَجلسِ خيفةٍ
حَتَّى تُبَدَّلَ خيفةٌ بأمانِ
441- ناظِرْ أديبًا مُنصِفًا لَكَ عاقِلًا
وانْصِفْه أنتَ بحَسْبِ ما تَرَيانِ
442- ويَكونُ بَينَكُما حَكيمٌ حاكِمًا
عَدلًا إذا جِئتاه تَحتَكِمانِ [2536] ((نونية القحطاني)) (ص: 44) فما بعدها. .
المناظراتُ في الكتابِ والسنةِ:
قال ابنُ القيِّمِ: (فصولٌ عظيمةُ النَّفع جدًّا في إرشادِ القرآنِ والسُّنَّةِ إلى طريقِ المناظرةِ وتصحيحِها، وبيانِ العِللِ المؤثِّرةِ، والفروقِ المؤثرةِ، وإشارتِهما إلى إبطالِ الدَّوْرِ والتَّسلسلِ بأوجزِ لفظٍ وأبينِهِ، وذِكْرِ ما تضمَّناه مِن التَّسويةِ بينَ المتماثلَينِ، والفَرقِ بينَ المختلفَينِ، والأجوبةِ عن المعارضاتِ، وإلغاءِ ما يجبُ إلغاؤُه مِن المعاني التي لا تأثيرَ لها، واعتبارِ ما يَنبغي اعتبارُه، وإبداءِ تناقضِ المبطِلِينَ في دَعاويهم وحُجَجِهم، وأمثالِ ذلك.
وهذا من كنوزِ القرآن التي ضلَّ عنها أكثرُ المتأخرينَ، فوضَعوا لهم شريعةً جَدَلِيَّةً، فيها حقٌّ وباطلٌ، ولو أعْطَوُا القرآنَ حَقَّه لرَأوْه وافيًا بهذا المقصودِ، كافيًا فيه، مُغْنِيًا عن غيرِه. والعالِمُ عن الله مَنْ آتاه الله فَهمًا في كتابهِ.
والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أوَّلُ مَن بيَّنَ العِللَ الشرعيَّةَ والمآخِذَ، والجمعَ والفَرْقَ، والأوصافَ المعتبرةَ والأوصافَ الملغاةَ، وبيَّنَ الدَّورَ والتَّسلسُلَ وقطعَهما) [2537] ((بدائع الفوائد)) (4/ 1533). . ثمَّ ذكَر أمثلةً كثيرةً من السُّنَّةِ على ذلك.
ثمَّ قال: (وإذا تأملْتَ القرآنَ وتدبّرْتَه، وأعَرتَه فكرًا وافيًا، اطَّلَعْتَ فيه مِن أسرارِ المناظراتِ، وتقريرِ الحُجَجِ الصَّحيحةِ، وإبطالِ الشُّبَهِ الفاسدَةِ، وذِكْرِ النَّقضِ والفَرْقِ، والمعارضةِ والمنعِ، على ما يَشْفي ويَكْفي لمن بصَّره اللهُ. وأنعمَ عليه بفهم كتابِهِ) [2538] ((بدائع الفوائد)) (4/ 1540). .
ثمَّ ذكَر أمثلةً كثيرةً مِن القرآنِ على ما ذكَر.

انظر أيضا: