موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (161-162)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غريب الكلمات:

حِطَّةٌ: أي: طَلَبُنا أن تحُطَّ عنَّا ذنوبَنا، وأصلُ الحطِّ: إنزالُ الشَّيءِ مِن علوٍّ [1948] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/50)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/13)، ((المفردات)) للراغب (1/242)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/17)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 75). .
سُجَّدًا: أي: رُكَّعًا، والسُّجُودُ أصلُه: التَّطامُن والتَّذلُّل، وجُعِلَ ذلك عبارةً عن التَّذلُّلِ لله، وعبادَتِه، وهو عامٌّ في الإنسانِ والحيواناتِ والجَماداتِ [1949] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/133)، ((المفردات)) للراغب (ص: 396)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 17). .
خَطِيئَاتِكُمْ: جمعُ خطيئةٍ، وهي فعيلةٌ مِن الخطأِ، وهو العُدولُ عن القَصدِ والجِهةِ؛ يقال: خَطِئَ الرجلُ يَخْطَأُ خِطْأً: إذا تعمَّدَ الذَّنبَ [1950] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215)، ((المفردات)) للراغب (ص: 287)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 87). .

المعنى الإجمالي:

واذكرُ- يا محمَّدُ- إذ قال اللهُ لِقَومِ موسى: اسكُنوا بيتَ المَقدِس، وكُلوا مِن ثِمارِها وحُبوبِها ونَباتِها في أيِّ مكانٍ شِئتُم منها، وقولوا: مسألَتُنا يا ربَّنا أن تحُطَّ ذُنوبَنا، وادخُلوا بابَ القريةِ ركَّعًا متواضعينَ خاضعينَ للهِ، نَغْفِرْ لكم ذُنوبَكم، وسنزيدُ المُحسنينَ.
فغَيَّرَ الذين ظَلَموا مِن قَومِ موسى قولًا غيرَ الذي أُمِرُوا أن يقولوه، فأرسَلَ اللهُ عليهم عذابًا مِن السَّماءِ؛ بسبَبِ ظُلمِهم لأنفُسِهم بالمعاصي.

تفسير الآيتين:

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكرَ اللهُ تعالى ما حَباهم في القِفارِ؛ أتبَعَه إنعامَه عليهم عند الوُصولِ إلى الدَّارِ، فقال سبحانه [1951] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/135). :
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين قال اللهُ تعالى لقَومِ موسى لَمَّا خَرَجوا مِن مِصرَ: اسكنُوا مدينةَ بيتِ المَقدِس، واستوطِنُوها [1952] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/505)، ((تفسير ابن عطية)) (2/466)، ((تفسير ابن كثير)) (1/273)، ((تفسير الشوكاني)) (2/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306). قال الشنقيطيُّ: (وأكثرُ المفسِّرين على أنَّ هذه القريةَ هي بيتُ المقدسِ، وبعضُ المفسِّرين يقولُ: هي أَرِيحا. وبعضُهم يقولُ غيرَ ذلك، فهي قريةٌ في فلسطينَ مِن قُرَى الشَّامِ). ((العذب النمير)) (4/260). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة: 20-22] .
وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ
أي: قال الله لِقَومِ موسى: وكُلُوا مِن ثِمارِ هذه القَريةِ وحُبوبِها ونَباتِها، في أيِّ مكانٍ شِئتُم منها [1953] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/505)، ((تفسير ابن عطية)) (2/466)، ((تفسير أبي السعود)) (3/283)، ((تفسير الشوكاني)) (2/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306). .
وَقُولُوا حِطَّةٌ
أي: وقولوا: طَلَبُنا ومسألَتُنا- يا ربَّنا- أن تحُطَّ ذُنوبَنا [1954] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/505)، ((تفسير السمعاني)) (1/83)، ((تفسير ابن عطية)) (2/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306).  .
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا 
أي: وادخُلوا بابَ القَريةِ رُكَّعًا مُنحَنينَ مُتواضِعينَ، وخاضِعينَ لله تعالى [1955] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/274)، ((تفسير الشوكاني)) (2/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306). اختار أنَّ السُّجودَ هنا بمعنى الانحناءِ تواضعًا وخضوعًا لله تعالى: مقاتلُ بن سليمان، والسمعاني، وابنُ تيميةَ، وابنُ القيِّم، وابنُ عاشورٍ، ونسَبَ ابنُ جريرٍ لابنِ عبَّاس أنَّه انحناءُ ركوعٍ، ولم يحْكِ قولًا سواه. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/69)، ((تفسير السمعاني)) (1/83)، ((مجموع الفتاوى)) (23/137)، ((الفتاوى الكبرى)) (1/358)، ((زاد المعاد)) (4/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/515)، ((تفسير ابن جرير)) (1/714). وقيل: بل هو سُجودُ شُكرٍ لله تعالى، وهذا ظاهِرُ اختيارِ ابنِ كثيرٍ، واختاره الشِّنقيطي، وابنُ عثيمينَ، في تفسيرِهم لنظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ البَقَرة. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/274)، ((العذب النمير)) (1/113)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة البقرة)) (1/199-200). .
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ
أي: إذا قُمتم بما أمَرَكم اللهُ تعالى به فقُلتم: حِطَّةٌ، ودخَلْتُم بابَ القَريةِ ساجِدينَ؛ فإنَّنا نستُرُ جميعَ ذُنوبِكم، ونتجاوَزُ عن مؤاخَذَتِكم بها [1956] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/505)، ((الوسيط)) للواحدي (1/144)، ((تفسير ابن كثير)) (1/275)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306). .
سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
أي: سنزيدُ المُطيعينَ لله، الذين أحسَنوا أعمالَهم، وأتقَنوها بمراقبةِ اللهِ تعالى فيها، فعَبَدوه كأنَّهم يَرونَه؛ سنزيدُهم على مَغفِرَتِنا لذُنوبهم، ثوابًا مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرة [1957] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/505)، ((تفسير الشوكاني)) (2/292)،  ((تفسير السعدي)) (ص: 306). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (1/415)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/264-266). .
كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].
وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] .
وقال عزَّ وجلَّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ [النحل: 30] .
وقال جلَّ جلالُه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
وقال تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] .
وقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا [الشورى: 23] .
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بارزًا يومًا للنَّاسِ، فأتاه جبريلُ، فقال: ما الإحسانُ؟ قال: أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنَّه يراك )) [1958] رواه البخاري (50) ومسلم (9). .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) 
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
أي: فغيَّرَ الظَّالمون مِن قَومِ موسى ما أمَرَهم اللهُ أن يَقولوه ليغفِرَ لهم ذُنوبَهم، فقالوا بدَلَ حِطَّة: حَبَّةٌ في شَعرةٍ [1959] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/506)، ((الوسيط)) للواحدي (1/144)، ((تفسير ابن كثير)) (1/277)، ((تفسير الشوكاني)) (2/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306). !!
عن أبي هريرةَ رَضيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قيل لبني إسرائيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة: 58] فبدَّلوا، فدَخَلوا يزحَفونَ على أسْتاهِهم، وقالوا: حبَّةٌ في شَعرة )) [1960] رواه البخاري (4641)، واللفظ له، ومسلم (3015). .
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ
أي: فبَعَثْنا على الذين بدَّلوا ما أمَرَهم الله به، عذابًا نزَلَ عليهم من السَّماءِ؛ إمَّا الطَّاعونَ، وإمَّا غيرَه [1961] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/506)، ((تفسير البغوي)) (2/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306). .
كما قال تعالى: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة: 59] .
وقال سبحانه: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 34] .
وعن أسامةَ بنِ زيدٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الطَّاعونُ رِجزٌ أو عذابٌ أُرسِلَ على بني إسرائيلَ، أو على مَن كان قَبلَكم، فإذا سَمِعتُم به بأرضٍ، فلا تَقدَمُوا عليه، وإذا وقَعَ بأرضٍ وأنتم بها، فلا تَخرُجوا فرارًا منه )) [1962] رواه البخاري (6974) ومسلم (2218).
بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ
أي: أرسَلْنا على قومِ موسى العذابَ؛ بسبَبِ ظُلمِهم لأنفسِهم بمعصيةِ اللهِ [1963] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/304)، ((تفسير الشوكاني)) (2/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 306). قال أبو السُّعود: (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ بسبَبِ ظُلمِهم المستمِرِّ السَّابِقِ واللَّاحِقِ، حسَبَما يفيدُه الجَمعُ بين صيغَتَي الماضي والمستقبَل، لا بسبَبِ التَّبديلِ فقط). ((تفسير أبي السعود)) (3/284). .

الفوائد التربوية:

قولُ اللهِ تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ العبرةُ فيه أن نتَّقيَ الظُّلمَ والفِسقَ، ونَعلَمَ أنَّ اللهَ يُعاقِبُ الأمَمَ على ذُنوبِها في الدُّنيا قبل الآخرةِ، وأنَّه قد عاقب بني إسرائيلَ بِظُلمِهم، ولم يَحُلْ دون عقابِه ما كان لهم مِن المزايا والفضائِلِ، وكثرةِ وُجودِ الأنبياءِ فيهم [1964] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/315-316). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ عبَّرَ هنا بالمجهولِ في قيل أي: مِن أيِّ قائلٍ كان، وبأيِّ صيغةٍ ورَدَ القَولُ، وعلى أيِّ حالةٍ كان؛ وذلك إعراضًا عن تلذيذِهم بالخِطابِ؛ إيذانًا بأنَّ هذا السِّياقَ للغَضَبِ عليهم؛ بتساقُطِهم في الكُفرِ، وإعراضِهم عن الشُّكر، وإظهارًا للعَظَمةِ؛ حيث كانت أدنى إشارةٍ منه كافيةً في سُكناهم في البِلادِ، واستقرارِهم فيها، قاهِرينَ لأهلِها الذين مَلؤُوا قلوبَهم هيبةً [1965] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/135). .
2- قولُ اللهِ تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ جُمِعَ خَطِيئَاتِكُمْ جمعَ قلَّةٍ؛ للإشارةِ إلى أنَّها قليلٌ في جَنبِ عَفوِه تعالى [1966] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/136). .
3- قولُ اللهِ تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ لَمَّا كان مِن المعلومِ أنَّ القائِلَ مَن له إلزامُهم، بنى الفِعلَ للمَجهولِ في قَولِه قِيلَ لَهُمْ [1967] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/137).

بلاغة الآيتين :

هاتان الآيتان (161-162) من سورةِ الأعرافِ، نظيرُ ما في سورةِ البَقَرةِ، وهو قولُه تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة: 58- 59] ، وفِيهما مُناسَباتٌ حَسنةٌ من وجوهٍ، وبيانُ ذلك على النحو التالي [1969] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/36- 40)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 72- 74)، ((البرهان)) للزركشي (1/128)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/25- 28)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/144-146). :
عبَّرَ هنا في سورة الأعرافِ بقَولِه: اسْكُنُوا، وفي سورةِ البَقَرةِ بقَولِه: ادْخُلُوا لأنَّ القَولينِ قيلَا لهم، أي قيل لهم: ادخُلوا واسكُنوها. وقيل: إنَّ أمْرَهم بدخولِ القَريةِ مُغايرٌ مِن حيث المعنى لأمْرِهم بسُكناها، وإن كان الأمرُ بدُخولِهم قد يُشيرُ بما نُسِقَ معه إلى سُكناها، لكنْ ليس نصًّا، بل ولا هو ظاهِرٌ، وإنَّ آيةَ الأعراف بيَّنَتْ ذلك، وأوضحتِ المقصودَ، وحصَل الأمرُ بالدُّخول والسُّكنى، وتبيَّنَ وجهُ ورودِ العِبارَتينِ على الترتيبِ.
وقال هنا: وَكُلُوا وفي سُورةِ البقرة قال: فَكُلُوا بَحرْفِ التعقيبِ؛ لأنَّ الأكلَ لا يكونُ إلَّا بعد الدُّخولِ، ولا يكونُ قَبلَه ولا معه، وإنَّما يكونُ مرتَّبًا عليه، ولأنَّ الدُّخولَ سَريعُ الانقِضاءِ فيتبَعُه الأكلُ؛ فجيءَ بالحرفِ الذي يُبيِّنُ ذلك المعنى، ويُفيدُ أنَّه على التعقيبِ مِن غيرِ مُهلة. وأمَّا قولُه: وَكُلُوا هنا في سورة الأعراف؛ فلأنَّ السَّكَنَ مُنجرٌّ معه الأكلُ ومُساوِقٌ له، ولا يمكِنُ أن يكونَ مُرتَّبًا عليه؛ فجاء بالحَرفِ الصَّالح لذلك المعنى، وهو الواو، والمعنى: أقيموا فيها، وذلك ممتَدٌّ؛ فذُكِرَ بالواو، أي: اجمَعوا بين الأكلِ والسُّكونِ؛ فقيل في البقرة بما يُرادِفُ فاءَ التعقيبِ؛ لأنَّ التعقيبَ معنًى زائدٌ على مُطلَقِ الجَمعِ، الذي تفيدُه واو العَطفِ في سورة الأعرافِ.
وردَ قَولُه: رَغَدًا في البقرة، ولم يَرِدْ في الأعراف؛ وذلك لأنَّ مفهومَ السُّكنى الوارد في الأعرافِ، مع الأمرِ بالأكلِ حيث شاؤوا، مع انضمامِ معنى الامتنانِ والإنعامِ المقصودِ في الآيةِ؛ كلُّ ذلك مُشعِرٌ ومعرِّفٌ بتمادي الأكلِ، وقوَّةُ السِّياقِ مانعةٌ مِن التَّحجير والاقتصارِ؛ فحصل معنى الرَّغَد، فوقَع الاكتفاءُ بهذا المفهومِ الحاصِل قطعًا من سياقِ آيةِ الأعرافِ، ولو لم يَرِد في سورةِ البَقَرة لم يُفهَم من سياقِ الآية كفَهمِه مِن سياقِ آية الأعرافِ، وأيضًا ذَكرَ رَغَدًا في سورةِ البقرة؛ لأنَّ زيادةَ المنَّة أدخَلُ في تقويةِ التَّوبيخِ، وأيضًا لأنَّه سبحانه أسنَدَه إلى ذاتِه بلَفظِ التَّعظيمِ، وهو قولُه: وَإِذ قُلْنَا بخلافِ ما في الأعراف؛ فإنَّ فيه وَإِذ قِيلَ
واقتُصِرَ هنا على حِكايةِ أنَّه قيل لهم، وكانت آيةُ البقرةِ أَوْلى بحكايةِ ما دلَّت عليه فاءُ التَّعقيبِ؛ لأنَّ آيةَ البقرةِ سيقَت مَساقَ التَّوبيخِ، فناسَبَها ما هو أدَلُّ على المنَّةِ، وهو تعجيلُ الانتفاعِ بخَيراتِ القَريةِ، وآياتُ الأعرافِ سِيقَت لمجرَّدِ العبرةِ بقصَّةِ بني إسرائيلَ، ولأجْلِ هذا الاختلافِ مُيِّزَت آيةُ البَقَرة بإعادةِ الموصولِ وصِلَتِه في قَولِه: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا، وعُوِّضَ عنه هنا بضميرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ لأنَّ القَصدَ في آيةِ البَقَرة بيانُ سببِ إنزالِ العَذابِ عليهم مرَّتين، أُشيرَ إلى أولاهما بما يومِئُ إليه الموصولُ مِن علَّةِ الحُكم، وإلى الثَّانية بحرف السببيَّةِ، واقتصَرَ هنا على الثاني.
وقد وقع في سورة البَقَرة لفظ فَأَنْزَلْنَا، ووقع هنا لَفظُ فَأَرْسَلْنَا ولَمَّا قُيِّدَ كِلاهما بقوله: مِنَ السَّمَاءِ كان مفادُهما واحدًا، فالاختلافُ لمجرَّدِ التفنُّنِ بين القصَّتينِ، أو لأنَّ لَفظَ الرَّسولِ والرِّسالة كَثُر في الأعرافِ، فجاء ذلك وَفقًا لِما قَبلَه، وليس كذلك في سورةِ البقرةِ.
وعبَّرَ هنا بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ وفي البقرة بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ؛ لأنَّه لَمَّا اقتضى الحالُ في القِصَّتينِ تأكيدَ وَصْفِهم بالظُّلم، وأُدِّي ذلك في البقرة بقَولِه: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا- استُثقِلت إعادةُ لَفظِ الظُّلمِ هنالك مرةً ثالثةً، فعدَلَ عنه إلى ما يُفيدُ مفادَه، وهو الفِسقُ، وهو أيضًا أعَمُّ، فهو أنسبُ بتذييلِ التَّوبيخِ، وجِيء هنا بلَفظِ يَظْلِمُونَ؛ لئلَّا يفوتَ تسجيلُ الظُّلمِ عليهم مرةً ثالثةً، فكان تذييلُ آيةِ البَقَرة أنسبَ بالتَّغليظِ في ذمِّهم؛ لأنَّ مقامَ التَّوبيخِ يَقتضيه. وقيل: إنَّ وجهَ ذلك: أنَّه لَمَّا وُصِفَ اعتداؤُهم نِيطَت بهم أوَّلًا صفةُ الظُّلمِ، ومِن المعلومِ أنَّ مَواقِعَه تتَّسِعُ، ثُم لَمَّا ذَكَر من اعتدائِهم وسُوءِ مُرتَكَبِهم غيرَ ما تَقَدَّم، وتضاعَفَ مُوجِبُ وَبيلِ جَزائِهم- وُصِفوا بالفِسقِ المُنبئِ عن حالٍ أوبَقَ من الظُّلم، فالفِسقُ نقيضُ الإيمانِ، وفي طَرَفٍ منه؛ كما في قوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ، والظُّلمُ قد يقعُ على أضعَفِ المعاصي، ولوقوعِه على مُختَلفاتِ المآثِمِ، ومُطابَقتِه لِما قلَّ أو كثُرَ منها، وُصِفَ بالعِظَمِ حين أُريدَ به الشِّركُ؛ قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وإذا تقرَّرَ هذا، فسياقُ آياتِ البَقَرة مِن لَدُن قولِه تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إلى ذِكرِ وَصْفِهم بتظليلِهم بالغمامِ؛ ذُكروا فيه أولًا بالظُّلم، فقال تعالى عَقِبَ ذِكرِ تظليلِهم بالغَمامِ: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، ثم أردفَ ذِكرَ اعتدائِهم في تبديلِهم قولًا غيرَ الذي قيل لهم، وأعقَبَ بقَولِه: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وجَعَلَ الفِسقَ ختامَ وصفِهم الجاري؛ جزاءً على مُرتَكَباتِهم، ولم يقَعْ بعده ذِكرُ علَّةٍ مَنوطةٍ بجزاءِ ما وقعَ منهم، وأمَّا آيةُ الأعراف فهي جاريةٌ على منهجِ ما ورد في سورة البَقَرةِ، وأنَّ أوَّلَ وَصفِهم جزاءً على مُرتكَباتِهم قَولُه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ، ثم قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إلى قوله تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ؛ فطابقَ هذا ما ورَدَ في البقرةِ مِن تَقَدُّم وصفِهم أوَّلًا بالظُّلم، ثم بعد ذلك بالفِسقِ، ووضحَ الاتِّفاقُ في ختامِ القِصَّة في السُّورتينِ مِن غيرِ اختلافٍ فيهما.
ووقع في هذه الآية فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ولم يقَعْ لَفظُ مِنْهُمْ في سورةِ البَقَرة، ووجهُ زيادَتِها هنا: التصريحُ بأنَّ تبديلَ القَولِ لم يصدُرْ مِن جَميعِهم، وأجمَلَ ذلك في سورة البقرة؛ لأنَّ آيةَ البقرة لَمَّا سِيقَت مساقَ التَّوبيخ ناسَب إرهابَهم بما يُوهِمُ أنَّ الذين فعلوا ذلك هم جميعُ القَومِ؛ لأنَّ تَبِعاتِ بعض القبيلةِ تُحمَلُ على جماعَتِها؛ لأنَّ آيةَ البَقَرة يُفهَم منها أنَّها ليست على عُمومِها، فزادت آيةُ الأعراف تخصيصًا سمعيًّا بما يعطيه حرفُ التَّبعيضِ في قولِه تعالى: مِنْهُمْ، وآيةُ الأعراف مخَصِّصةٌ للعموم البادي من آيةِ البقرة؛ ولهذا القَصدِ من التَّخصيصِ ورد أيضًا في سورة البَقَرة: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ولم يَرِدْ فيها (فأنزَلْنا عليهم)؛ لأنَّه لو ورد كذلك لكان يتناوَلُ المتقَدِّمَ ذكرُهم على التَّعميمِ، وليس مقصودًا، فناسب: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنَّ المُعَذَّب هو الظَّالم ممَّن تَقدَّم، وجاء في الأعراف: عَلَيْهِمْ؛ لتخصيصِ ذِكرِ الظَّالمِ بقَولِه: مِنْهُمْ فجاء كلٌّ على ما يجِبُ.
وقدَّم في سورةِ البَقَرة قَولَه: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا على قَولِه: وَقُولُوا حِطَّةٌ وعَكَسَ هنا في الأعرافِ؛ لأنَّ قَولَهم: (حِطَّةٌ) دعاءٌ أُمِروا به في سُجودِهم، فلو ورد في السُّورتينِ على حدٍّ سواءٍ، لأوهَم من حيث مقتضى الواو من الاحتمالِ، أنَّهم أُمِروا بالسُّجودِ والقَولِ منفصلينِ غيرَ مُساوِقٍ أحدُهما للآخَرِ، على أحدِ مُحتمَلاتِ الواو في عدمِ الرُّتبة، فقَدَّمَ وأخَّرَ في السُّورتين؛ ليُحرِزَ المجموعُ أنَّ المرادَ بهذا القَولِ أن يكونَ في حالِ السُّجودِ لا قَبلَه ولا بَعدَه وتعيَّن بهذا معنى المعيَّةِ مِن محتَمَلات الواوِ، وتحرَّرَ المقصودُ، وأنَّ المراد: وادخلوا البابَ سجَّدًا قائلينَ في سجودكم: حِطَّةٌ، فاكتفى بتقلُّبِ الورودِ عن الإفصاحِ بمعنى المعيَّة؛ إيجازًا جليلًا، وبلاغةً عظيمةً، وقدَّم في البقرةِ الأمرَ بالسُّجودِ؛ لأنَّ ابتداءَ السُّجودِ يتقدَّمُ ابتداءَ الدُّعاءِ، ثمَّ يتساوَقُ المطلوبانِ، فجاء ذلك على التَّرتيبِ الثَّابتِ في السُّور والآياتِ.
ومن عادة العَرَب في كلامِهم: أنَّهم يقَدِّمونَ ما بيانُه أهَمُّ لهم، وهم به أعْنَى؛ فقولُه تعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ مقتضاه على ما تمهَّدَ الابتداءُ بأوَّلِ الأمرَينِ، فلا يمكنُ تحصيلُ ذلك في الآيتين إلَّا بالمساوَقةِ، وكونِهما معًا في حالةٍ واحدةٍ. وقيل: هو اختلافٌ في الإخبارِ لمُجرَّد التفنُّنِ؛ فإنَّ كِلا القولينِ واقعٌ، قُدِّم أو أُخِّر.
وأمَّا الاختلافُ في جمعِ خطيئة في السُّورتين؛ فإنَّها تُجمَع من حيثُ ثبوتُ تاء التأنيث في الواحدةِ منها بالألفِ والتاءِ، وتُجمَع أيضًا جمع تكسيرٍ، وورد جمعُها في البقرة جمعَ تكسيرٍ؛ ليُناسِبَ ما بُنِيَت عليه آياتُ البقرة من تَعدادِ النِّعَم والآلاءِ، لأنَّ جموعَ التَّكسير- ما عدَا الأربعةَ الأبنيةِ التي هي: (أفعُل وأفعال وأفعِلة وفِعْلة)- إنما ترِدُ في الغالِبِ للكثرة؛ فطابق الوارِدُ في البَقَرة ما قُصِدَ من تكثيرِ الآلاءِ والنِّعَم، وأمَّا الجمعُ بالألف والتَّاء فبابُه القِلَّةُ في الغالِبِ أيضًا ما لم يقتَرِنْ به ما يبَيِّنُ أنَّ المرادَ به الكثرةُ؛ فناسَب ما ورد في الأعرافِ من حيثُ لم تُبْنَ آياتُها على قَصدِ تَعَدُّد النِّعَم، على ما بُنيَت عليه آياتُ البَقَرة، ولأنَّ صِيغةَ الجَمعِ الكثيرِ ومَغفِرَتَها في قوله: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، أليقُ في آيةِ البقرةِ بإسنادِ الفِعلِ إلى نفْسِه سبحانَه؛ فجاء كلٌّ على ما يناسِبُ.
وأيضًا قولُه: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فيه وعدٌ بشيئينِ: بالغُفرانِ، وبالزِّيادةِ، وطَرحُ الواو لا يُخلُّ بذلك؛ لأنَّه استئنافٌ مُرتَّبٌ على تقديرِ قَولِ القائِلِ: وماذا بعد الغُفرانِ؟ فقيل له: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [1970] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/170). .