موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: الدَّوامُ على الشَّيءِ هَل هو كابتِدائِه أم لا؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الدَّوامُ على الشَّيءِ هَل هو كابتِدائِه أم لا؟" [1479] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/163). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـصيغةِ "التَّمادي على الفِعلِ هَل يُجعَلُ كابتِدائِه؟" [1480] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (4/53). ، و"هَلِ الدَّوامُ كالِابتِداءِ؟" [1481] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/429). ، و"التَّمادي على الشَّيءِ هَل يَكونُ كابتِدائِه في الحُكمِ أم لا؟" [1482] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/220). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تَتَساءَلُ القاعِدةُ عنِ الاستِمرارِ على فِعلٍ مِنَ الأفعالِ هَل يَكونُ كإنشائِه وإيجادِه، فحينَئِذٍ يُعطى له مِنَ الأحكامِ ما يُعطى لابتِدائِه، أو أنَّ الاستِمرارَ ليسَ كالإيجادِ، فلا يُعطى للدَّوامِ حُكمُ الابتِداءِ؟ في هذا خِلافٌ بَينَ العُلَماءِ، ولأجلِ ذلك صيغَتِ القاعِدةُ بالِاستِفهامِ في بَعضِ المَواضِعِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ بَيانًا لقاعِدةِ (ما يَمتَدُّ فلِدَوامِه حُكمُ ابتِدائِه وإلَّا فلا) [1483] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (4/53)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/429)، ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/163)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/220:215)، ((الدر الثمين)) لميارة (ص: 200)، ((شرح نيل المنى)) لمولود السريري (3/176). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ للقَولِ بأنَّ الدَّوامَ على الشَّيءِ ليسَ كابتِدائِه بما يَلي مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كُنتُ أُطَيِّبُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لإحرامِه حينَ يُحرِمُ، ولحِلِّه قَبلَ أن يَطوفَ بالبَيتِ)) [1484] أخرجه البخاري (1539) واللفظ له، ومسلم (1189). .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كُنَّا نَخرُجُ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى مَكَّةَ فنُضَمِّدُ جِباهَنا بالسُّكِّ المُطَيَّبِ عِندَ الإحرامِ، فإذا عَرِقَت إحدانا سالَ على وَجهِها، فيَراه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا يَنهاها)) [1485] أخرجه أبو داود (1830) واللفظ له، وأحمد (25062). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1830)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1601)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1830)، وحَسَّنه النَّوويُّ في ((المجموع)) (7/219). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
أنَّهما دَلَّا على أنَّ المُحرِمَ إن تَطَيَّب قَبلَ إحرامِه فلا يَضُرُّه بَقاءُ أثَرِه عليه بَعدَ الإحرامِ، مَعَ أنَّ وَضعَ المُحرِمِ الطِّيبَ على بَدَنِه بَعدَ عَقدِ نيَّةِ الإحرامِ مَنهيٌّ عنه، فاختَلَف حُكمُ الدَّوامِ عن حُكمِ الابتِداءِ [1486] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/207)، ((الكوكب الدراري)) للكرماني (8/72)، ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (5/531). .
ويُستَدَلُّ للقَولِ بأنَّ الدَّوامَ كالِابتِداءِ بما يَلي مِنَ السُّنَّةِ والمَعقولِ.
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى فخَلَعَ نَعلَيه، فخَلَعَ النَّاسُ نِعالَهم، فلَمَّا انصَرَف قال: لمَ خَلَعتُم نِعالَكُم؟ فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، رَأيناك خَلَعتَ فخَلَعنا، قال: إنَّ جِبريلَ أتاني فأخبَرَني أنَّ بهما خَبَثًا، فإذا جاءَ أحَدُكُمُ المَسجِدَ فليَقلِبْ نَعلَه فليَنظُرْ فيها، فإن رَأى بها خَبَثًا فليُمِسَّه بالأرضِ، ثُمَّ ليُصَلِّ فيهما)) [1487] أخرجه أحمد (11153) واللفظ له، وابن خزيمة (1017)، والحاكم (970). صَحَّحه ابنُ خزيمة، والحاكم على شرط مسلم، والنووي في ((المجموع)) (4/92)، وابن الملقن في ((غاية مأمول الراغب)) (32)، والألباني في ((أصل صفة الصلاة)) (1/108)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/349). ورويَ بلَفظ: عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَينَما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي بأصحابِه إذ خَلعَ نَعلَيه فوضَعَهما عن يَسارِه، فلمَّا رَأى ذلك القَومُ ألقَوا نِعالَهم، فلمَّا قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاتَه، قال: ما حَملَكُم على إلقاءِ نِعالِكُم؟ قالوا: رَأيناك ألقَيتَ نَعلَيك فألقَينا نِعالَنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ جِبريلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاني فأخبَرَني أنَّ فيهما قَذَرًا -أو قال: أذًى-، وقال: إذا جاءَ أحَدُكُم إلى المَسجِدِ فليَنظُرْ فإن رَأى في نَعلَيه قَذَرًا أو أذًى فليَمسَحْه وليُصَلِّ فيهما)). أخرجه أبو داود (650) واللفظ له، وأحمد (11877). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((الصحيح)) (2/ 21)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (2185)، والنووي في ((المجموع)) (3/ 132)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 91)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (650). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الصَّلاةَ بالنَّجاسةِ مَمنوعةٌ ابتِداءً، فلَمَّا عَلِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثناءَ صَلاتِه أنَّ نَعلَه أصابَتها نَجاسةٌ خَلَعَها ولَم يُداوِمْ على لُبسِها؛ فدَلَّ على أنَّ الدَّوامَ في هذا كالِابتِداءِ [1488] يُنظر: ((معلمة زايد)) (8/501)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 348)، ((القواعد الفقهية وتطبيقاتها)) لمحمد الزحيلي (1/ 425). .
2- مِنَ المَعقولِ:
وبَيانُه أنَّ الاستِمرارَ والتَّماديَ على فِعلِ الشَّيءِ كفِعلِه ابتِداءً؛ لاشتِراكِهما في إيجادِ الفِعلِ [1489] يُنظر: ((نظرية التقعيد الفقهي)) للروكي (ص: 118)، ((معلمة زايد)) (8/501- 500). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- ضَمانُ المَغصوبِ هَل يَكونُ بوقتِ الغَصبِ أو بأعلى القيَمِ؟ إن قُلنا: ليسَ الدَّوامُ كالِابتِداءِ؛ فالضَّمانُ يَومَ الغَصبِ، والمَنافِعُ تابِعةٌ، وإن قُلنا: إنَّه كالِابتِداءِ؛ فالغاصِبُ في كُلِّ حينٍ كالمُبتَدِئِ للغَصبِ، فهو ضامِنٌ في كُلِّ وقتٍ ضَمانًا جَديدًا، فيَجِبُ أن يَضمَنَ المَغصوبَ بأرفعِ القيَمِ، كَما قال بَعضُ المالِكيَّةِ؛ لأنَّ عليه أن يَرُدَّه في كُلِّ وقتٍ، ومَتى لم يَرُدَّه كان كَمُغتَصِبِه حينَئِذٍ [1490] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (3/429)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (10/397)، ((المهمات في شرح الروضة والرافعي)) للإسنوي (6/10)، ((درر الحكام)) لعلى حيدر (2/522). .
2- مَن أحدَثَ بَعدَ تَمامِ وُضوئِه وقَبلَ تَمامِ غُسلِه، ثُمَّ غَسَلَ ما مَرَّ مِن أعضاءِ وُضوئِه ولَم يُجَدِّدْ غسلَ نيَّةٍ للوُضوءِ، هَل يُجزيه أم لا؟ فقَولانِ بناءً على القاعِدةِ، وبَيانُه: أنَّ نيَّةَ الطَّهارةِ الكُبرى مُنسَحِبةٌ حُكمًا إلى آخِرِ الغُسلِ، فإنَّ قُدِّرَ ذلك الانسِحابُ كالِابتِداءِ لم يُحتَجْ مَعَه إلى إنشاءِ النِّيَّةِ، وإن لم يُقدَّرْ ذلك الانسِحابُ كالِابتِداءِ احتيجَ إلى نيَّةِ الوُضوءِ [1491] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/216،215)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/140)، ((بلغة السالك)) للصاوي (1/66). .
3- لو حَلَف أن لا يَلبَسَ ثَوبًا وهو عليه، لزِمَه نَزعُه عنه في أوَّلِ أوقاتِ الإمكانِ، فإن تَراخى مَعَ الإمكانِ حَنِثَ، وكَذا مَن حَلَف لا يَسكُنُ دارًا وهو ساكِنُها لزِمَه النُّزوعُ أوَّلَ أوقاتِ الإمكانِ، فإن تَراخى مَعَ الإمكانِ حَنِثَ، وقيل: لا يَحنَثُ في هذه الأمثِلةِ، ومَبنى ذلك هَلِ الدَّوامُ كالِابتِداءِ أم لا؟ [1492] يُنظر: ((المدونة)) لسحنون (1/608،607)، ((مختصر المزني)) (ص: 8)، ((مختصر القدوري)) (ص: 211)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/350،349)، ((المغني)) لابن قدامة (13/559)، ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (5/237). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
استَثنى الذينَ فرَّقوا في الحُكمِ بَينَ الدَّوامِ والِابتِداءِ بَعضَ الحالاتِ، فلَم يُفرِّقوا فيها بَينَ الدَّوامِ والِابتِداءِ في الحُكمِ؛ لاتِّحادِ سَبَبِ الابتِداءِ والدَّوامِ فيها [1493] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 421)، ((معلمة زايد)) (8/497- 498). ، ومِن ذلك:
1- مَن ماتَ وعليه دَينٌ ولَم يَترُكْ وَفاءً لدَينِه، يَجوزُ ضَمانُ دَينِه بَعدَ مَوتِه، كَما يَجوزُ في حَياتِه، فيُستَدامُ الضَّمانُ ولا يَبطُلُ بالمَوتِ؛ فالضَّمانُ لا يُنافي المَوتَ، ولَو نافاه ابتِداءً لنافاه استِدامةً [1494] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 421). .
2- الرَّضاعُ إذا قارَنَ ابتِداءَ النِّكاحِ مَنَعَه، ولَو طَرَأ بَعدَ النِّكاحِ يَقطَعُه أيضًا؛ فهو مانِعٌ لصِحَّةِ النِّكاحِ ابتِداءً ودَوامًا [1495] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/ 532)، ((موسوعة القواعد)) للبورنو (7 /162). .

انظر أيضا: