موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الرِّضا بالأدنى يَكونُ رِضًا بالأعلى مِن طَريقِ الأَولى


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الرِّضا بالأدنى يَكونُ رِضًا بالأعلى مِن طَريقِ الأَولى" [1232] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/321). . وصيغةِ: "الرِّضا بالشَّيءِ يَكونُ رِضًا بما هو مِثلُه أو دونَه عادةً، لا بما هو أضَرُّ مِنه" [1233] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/14). . وصيغةِ: "الرِّضا بأدنى الضَّرَرَينِ لا يَكونُ رِضًا بأعلاهما" [1234] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/216). . وصيغةِ: "الرِّضا بأعلى الضَّرَرَينِ رِضًا بالأدنى وبمِثلِه دَلالةً" [1235] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (2/53)، ((الفتاوى الهندية)) (4/490). . وصيغةِ: "الإذنُ بشَيءٍ إذنٌ بما يُساويه أو بما هو خَيرٌ مِنه" [1236] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/369). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الرِّضا بالشَّيءِ قد يَكونُ صَريحًا، وقد يَكونُ دَلالةً، والرِّضا بالأدنى مِنَ الشَّيءِ مِمَّا فيه مَصلَحةٌ يَستَلزِمُ الرِّضا بالأعلى دَلالةً؛ حَيثُ يَدُلُّ عليه مِن طَريقِ الأَولى؛ لأنَّ الأدنى يَدخُلُ في ضِمنِ الأعلى، والرِّضا بالأعلى فيه زيادةُ خَيرٍ. بخِلافِ ما فيه ضَرَرٌ؛ فإنَّ الرِّضا بأدنى الضَّرَرَينِ لا يَكونُ رِضًا بأعلاهما، وأمَّا الرِّضا بأعلى الضَّرَرَينِ فهو رِضًا بالأدنى وبمِثلِه مِن طَريقِ الأَولى [1237] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/321) و(6/216)، ((الاختيار)) للموصلي (2/53)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/336). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (التَّابِعُ تابِعٌ)؛ لأنَّ الرِّضا بالأدنى يَدخُلُ فيه الرِّضا بالأعلى ضَرورةً، فكان تابِعًا له؛ لأنَّ التَّابِعَ تابِعٌ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عُروةَ بنِ أبي الجَعدِ البارِقيِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطاه دينارًا يَشتَري له به شاةً، فاشتَرى له به شاتَينِ، فباعَ إحداهما بدينارٍ، وجاءَه بدينارٍ وشاةٍ، فدَعا له بالبَرَكةِ في بَيعِه، وكان لوِ اشتَرى التُّرابَ لرَبحَ فيه )) [1238] أخرجه البخاري (3642). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ أمرَ الوَكالةِ مَبنيٌّ على النَّظَرِ للمُوَكِّلِ والحيطةِ له فيما وَكَّلَ فيه، فمَن وكَّلَ رَجُلًا بأن يَشتَريَ له شَيئًا بثَمَنٍ مُحَدَّدٍ فاشتَراه له بأقَلَّ مِن ذلك، فبَيعُه جائِزٌ؛ لأنَّه قدِ ائتَمَرَ له فيما وكَّلَه به، وزادَه خَيرًا، والرِّضا بالأدنى يَدخُلُ فيه الرِّضا بالأعلى مِن بابِ أَولى [1239] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/1621). .
2- مِنَ الإجماعِ:
وقد نَقَلَه الخَطَّابيُّ على صورةٍ مِن صُوَرِ القاعِدةِ [1240] قال: (لا أعلَمُ خِلافًا في أنَّ مَن وكَّلَ رَجُلًا بأن يَشتَريَ له شَيئًا بعَينِه بدينارَينِ، فاشتَراه له بدينارٍ: أنَّ بَيعَه جائِزٌ؛ لأنَّه قدِ ائتَمَرَ له فيما وكَّلَه به، وزادَه خَيرًا). ((أعلام الحديث)) (3/1621). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ:
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
 1- إذا أظهَرَ رَجُلٌ نَسَبَه لامرَأةٍ، فزوَّجَت نَفسَها مِنه، ثُمَّ ظَهَرَ نَسَبُه على خِلافِ ما أظهَرَه، فالأمرُ لا يَخلو: إمَّا أن يَكونَ المَكتومُ مِثلَ المُظهَرِ، وإمَّا أن يَكونَ أعلى مِنه، وإمَّا أن يَكونَ أدوَنَ. فإن كان مِثلَه فلا خيارَ لها؛ لأنَّ الرِّضا بالشَّيءِ يَكونُ رِضًا بمِثلِه، وإن كان أعلى مِنه فلا خيارَ لها أيضًا؛ لأنَّ الرِّضا بالأدنى يَكونُ رِضًا بالأعلى مِن طَريقِ الأَولى. وإن كان أدوَنَ مِنه فلَها الخيارُ [1241] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/321). .
2- إذا وكَّلَ الزَّوجُ في الخُلعِ، ولَم يُحَدِّدِ العِوَضَ، فإن خالَعَ عنه الوكيلُ بمَهرِ المِثلِ مِن نَقدِ البَلَدِ حالًّا صَحَّ؛ لأنَّ إطلاقَ إذنِه يَقتَضي ذلك. وإن خالَعَ عنه بأكثَرَ مِن مَهرِ المِثلِ صَحَّ؛ لأنَّه زادَه خَيرًا [1242] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (10/41). .
3- إذا وكَّلَ غَيرَه في الشِّراءِ بأجَلٍ، فاشتَرى نَقدًا، لم يَلزَمِ الموكِّلَ؛ لأنَّه لم يُؤذَنْ له فيه، وإن وكَّله في الشِّراءِ بنَقدٍ، فاشتَرى بأجَلٍ أكثَرَ مِن ثَمَنِ النَّقدِ لم يَجُزْ ذلك، وإن كان بمِثلِ ثَمَنِ النَّقدِ، وكان فيه ضَرَرٌ، مِثلُ أن يَستَضِرَّ بحِفظِ ثَمَنِه، فكذلك، وإن لم يَستَضِرَّ به لزِمَه؛ لأنَّه زادَه خَيرًا [1243] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/140). .

انظر أيضا: