موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّالثُ: المانِعُ الطَّارِئُ هَل هو كالمُقارِنِ؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المانِعُ الطَّارِئُ هَل هو كالمُقارِنِ؟" [697] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص:185). ، ويُعَبَّرُ عنها بــ "الطَّارِئُ هَل يُنَزَّلُ مَنزِلةَ المُقارِنِ؟" [698] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/347). ، و "كُلُّ ما لو قارَنَ لمَنَعَ، فإذا طَرَأ فعلى قَولَينِ" [699] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/312)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/532). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا تَمَّ التَّصَرُّفُ مُستَكمِلًا أركانَه وشُروطَه التي يَصِحُّ بها، ولم يَكُنْ ثَمَّ مانِعٌ يَمنَعُ انعِقادَه، ثُمَّ طَرَأ عليه طارِئٌ لو كان مَوجودًا وقتَ الابتِداءِ لأبطَلَه، هَل يُعتَبَرُ وُجودُه الآنَ بمَنزِلةِ وُجودِه ابتِداءً، فيَمنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ كَما لو كان مَوجودًا ابتِداءً، أو لا يُعتَبَرُ حُدوثُه الآنَ كَوُجودِه في الابتِداءِ؟ في ذلك خِلافٌ، ولأجلِ ذلك صيغَتِ القاعِدةُ بصيغةِ سُؤالٍ، وقَسَّم الزَّركَشيُّ الطَّارِئَ إلى أربَعةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: ما يَمنَعُ مَنزِلةَ المُقارِنِ قَطعًا، كَما لو نَكَحَ امرَأةً فوطِئَها أبَوه بشُبهةٍ، أو وطِئَ هو أُمَّها، انفسَخَ النِّكاحُ.
الثَّاني: ما لا يُنَزَّلُ مَنزِلتَه قَطعًا، كَما لو أحرَمَ المُتَزَوِّجُ لم يَمنَعِ استِمرارَ النِّكاحِ، وإن كان لو قارَنَ ابتِداءَه مَنَعَ.
الثَّالثُ: ما فيه خِلافٌ والأصَحُّ تَنزيلُه مَنزِلتَه، كَما لو أنشَأ السَّفَرَ مُباحًا ثُمَّ صَرَفه إلى مَعصيةٍ، لم يَتَرَخَّصْ في الأصَحِّ، فجَعَلوا طارِئَ المَعصية كالمُقارِنِ في الأصَحِّ.
الرَّابعُ: ما فيه خِلافٌ والأصَحُّ أنَّه لا يُنَزَّلُ مَنزِلتَه، فمِنه: وُجودُ الحُرَّةِ مانِعٌ مِنِ ابتِداءِ نِكاحِ الأَمَةِ، فلو نَكَحَ أمَةً لعَدَمِ الحُرَّةِ، ثُمَّ أيسَرَ، أو نَكَحَ عليها حُرَّةً؛ لم يَنفَسِخْ نِكاحُ الأَمَةِ على الصَّحيحِ؛ لقوَّةِ الدَّوامِ.
وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكمِلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ المانِعِ حتَّى يَثبُتَ) [700] ينظر للمعنى الإجمالي: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/312)، ((المنثور)) للزركشي (2/447 -351)، ((المجموع المذهب)) للعلائي (2/729-731)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/532)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص:186،185). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 264] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ جَعَلتِ المَنَّ والأذى الطَّارِئَ بَعدَ الصَّدَقةِ مُبطِلًا لها، كالرِّياءِ المُقارِنِ في الابتِداءِ [701] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) للسخاوي (1/ 123)، ((المجموع المذهب)) للعلائي (2/731،730). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عَبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه شُكا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرَّجُلَ الذي يُخَيَّلُ إليه أنَّه يَجِدُ الشَّيءَ في الصَّلاةِ. فقال: ((لا يَنفتِلْ -أو: لا يَنصَرِفْ- حتَّى يَسمَعَ صَوتًا أو يَجِدَ ريحًا )) [702] أخرجه البخاري (137) واللفظ له، ومسلم (361). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَدَثَ الطَّارِئَ في الصَّلاةِ مُبطِلٌ لها، كالحَدَثِ المُقارِنِ الذي يَمنَعُ انعِقادَ الصَّلاةِ، كَما في حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقبَلُ اللهُ صَلاةَ أحَدِكُم إذا أحدَث حتَّى يَتَوضَّأَ )) [703] أخرجه البخاري (6954) واللفظ له، ومسلم (225). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ باختِلافِ أقسامِها:
1- الحَدَثُ يَمنَعُ صِحَّةَ ابتِداءِ الصَّلاةِ والطَّوافِ، فإذا طَرَأ عَمدُه عليهما قَطعَهما، فالطَّارِئُ فيه كالمُقارِنِ [704] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/347). .
2- الصَّيدُ لا يَصِحُّ مِنَ المُحرِمِ ابتِداءً تَملُّكُه، وإذا أحرَمَ وهو في مِلكِه زال مِلكُه عنه، ولزِمَه إرسالُه عِندَ بَعضِ الفُقَهاءِ، فالطَّارِئُ فيه كالمُقارِنِ [705] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/349). .
3- بُلوغُ الماءِ قُلَّتَينِ إذا وقَعَت فيه نَجاسةٌ ولم يَتَغَيَّرْ، لم يُؤَثِّرْ، ولو تَنَجَّسَ القَليلُ ثُمَّ بَلَغَ قُلَّتَينِ، اندَفعَ حُكمُ النَّجاسةِ بالكَثرةِ في ثاني الحالِ كالابتِداءِ [706] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/347). .
4- الفِسقُ؛ فإنَّه يَمنَعُ وِلايةَ الإمامةِ ابتِداءً، وإذا طَرَأ لم يُعزَلْ على الصَّحيحِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، فليسَ الطَّارِئُ فيه كالمُقارِنِ [707] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/312). .
5- الرَّضاعُ لو قارَنَ ابتِداءَ النِّكاحِ لمَنعَه، ولو طَرَأ لقَطعَه أيضًا، فالطَّارِئُ فيه كالمُقارِنِ [708] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/312). .
6- العِدَّةُ لو قارَنَتِ ابتِداءَ النِّكاحِ لمَنَعَته، ولو طَرَأت في أثنائِه في وَطءِ الشُّبهةِ لم تَقطَعْه، فليسَ الطَّارِئُ فيه كالمُقارِنِ [709] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/312). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
فائِدةٌ:
يُعَبَّرُ عن أحَدِ شِقَّي هذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: "يُغتَفرُ في الدَّوامِ ما لا يُغتَفرُ في الابتِداءِ"، ولهم قاعِدةٌ عَكسُ هذه، وهيَ: "يُغتَفرُ في الابتِداءِ ما لا يُغتَفرُ في الدَّوامِ" [710] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص:186). .

انظر أيضا: