موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الرَّابعُ: إذا أخرج عن مِلكِه مالًا على وَجهِ العِبادةِ ثُمَّ طَرَأ ما يَمنَعُ إجزاءَه أوِ الوُجوبَ، فهَل يَعودُ إلى مِلكِه أم لا؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إذا أخرج عن مِلكِه مالًا على وَجهِ العِبادةِ ثُمَّ طَرَأ ما يَمنَعُ إجزاءَه أوِ الوُجوبَ، فهَل يَعودُ إلى مِلكِه أم لا؟" [711] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/208). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُشيرُ القاعِدةُ إلى أنَّ المُكَلَّفَ إذا أخرج عن مِلكِه مالًا، وكان الهَدَفُ مِن إخراجِه عِبادةً مُعَيَّنةً، كَزَكاةٍ أو نَذرٍ أو نَحوِهما، ثُمَّ تَبيَّن له أنَّ ما أخرجه مِنَ المالِ لا يُجزِئُ، أو طَرَأ أمرٌ يَجعَلُ ما أخرَجَه على سَبيلِ الوُجوبِ غَيرَ واجِبٍ عليه، فهَل يَعودُ إلى مِلكِه لأجلِ أنَّه لم يَقَعْ مَوقِعَه الذي خَرَجَ عن مِلكِه لأجلِه، أو لا يَعودُ إلى مِلكِه؟ في ذلك خِلافٌ بَينَ الفُقَهاءِ في القاعِدةِ والفُروعِ المُندَرِجةِ تَحتَها، وقدِ انفرَدَ بذِكرِ هذه القاعِدةِ ابنُ رَجَبٍ في قَواعِدِه، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكمِلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ المانِعِ حتَّى يَثبُتَ) [712] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/208)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبدالكريم اللاحم (ص:97،96). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على عَدَمِ الرُّجوعِ إلى مِلكِه: الأثَرُ والمَعقولُ:
1- مِنَ الأثَرِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (أنَّها ساقَت بَدَنَتَينِ، فأضَلَّتهما، فأرسَل إليها ابنُ الزُّبَيرِ بَدَنَتَينِ فنَحَرَتهما، ثُمَّ وجَدَتِ البَدَنَتَينِ الأوليَينِ، فنَحَرَتهما أيضًا، ثُمَّ قالت: هَكَذا السُّنَّةُ في البُدنِ) [713] أخرجه ابن أبي شيبة (14659)، وابن خزيمة (2925) واللفظ له، والبيهقي (19225). صحح إسناده ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/328)، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/3875): إسناده صالح وذهب إلى تصحيحه ابن خزيمة .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ أُمَّ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنها ذَبَحَتهما لمَّا رَجَعا، ولم تَكتَفِ بالهَديَينِ اللَّذَينِ بَعَثَ بهما ابنُ الزُّبَيرِ، وأشارَت إلى كَونِ هذا هو السُّنَّةَ، وهو مُنصَرِفٌ إلى سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [714] يُنظر: ((البحر المحيط الثجاج)) للإثيوبي (24/117). .
2- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ الظَّاهرَ أنَّ ذلك المالَ خَرَجَ على جِهةِ الزَّكاةِ الواجِبةِ أو صَدَقةِ تَطَوُّعٍ، وقد لزِمَت بالقَبضِ، فلم يَملِكْ صاحِبُها الرُّجوعَ عنها [715] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/306)، ((الكافي)) لابن قدامة (1/418). .
وأمَّا الدَّليلُ على صِحَّةِ الرُّجوعِ فهو أنَّ المالَ قد دُفِعَ عَمَّا يَستَقِرُّ في المُستَقبَلِ، وقد بَيَّنَ ذلك، فإذا طَرَأ ما يَمنَعُ الاستِقرارَ ثَبَتَ له الرُّجوعُ، كَما لو عَجَّل أُجرةَ دارٍ ثُمَّ انهَدَمَتِ الدَّارُ قَبلَ انقِضاءِ المُدَّةِ [716] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/306)، ((الكافي)) لابن قدامة (1/418). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا أوجَبَ هَديًا أو أُضحيَّةً عن واجِبٍ في ذِمَّتِه، ثُمَّ أصابَها عَيبٌ، فإن كان الذَّبحُ واجِبًا بنَفسِ التَّعيينِ، مِثلُ ما لو أوجَبَ أُضحيَّةً سَليمةً، ثُمَّ حَدَثَ بها عَيبٌ يَمنَعُ الإجزاءَ مِن غَيرِ فِعلِه، فهنا عليه ذَبحُه، وقد أجزَأَ عنه في قَولٍ عِندَ الحَنابلةِ، والقَولُ الآخَرُ: لا تُجزِئُه وتَخرُجُ بالعَيبِ عن كَونِها أُضحيَّةً، وإن كان مُعَيَّنًا عن واجِبٍ في الذِّمَّةِ وتَعيَّبَ أو تَلِفَ أو ضَلَّ أو عَطِبَ أو سُرِقَ أو نَحو ذلك، لم يُجزِئْه، ولزِمَه بَدَلُه؛ لأنَّ الواجِبَ في ذِمَّتِه دَمٌ صحيحٌ، فلا يُجزِئُ عنه دَمٌ مَعيبٌ، والوُجوبُ مُتَعَلِّقٌ بالذِّمَّةِ، وهَل يَعودُ المَعيبُ إلى مِلكِه؟ على رِوايَتَينِ عِندَ الحَنابلةِ؛ إحداهما: يَعودُ وإن شاءَ باعَه، وإن نَحرَه جازَ أكلُه مِنه؛ لأنَّ عليه البَدَلَ، والآخَرُ: لا يَعودُ إلى مِلكِه؛ لأنَّه تَعَلَّقَ حَقُّ اللهِ بهما بإيجابِهما على نَفسِه، فلم يَسقُطْ بذَبحِ بَدَلِهما [717] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (4/427)، ((القواعد)) لابن رجب (1/208)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/400،399)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/417،416)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/221). .
2- إذا عَجَّل الزَّكاةَ فدَفعَها إلى الفقيرِ ثُمَّ هَلكَ المالُ، فهَل يَرجِعُ بها أم لا؟ على وجهَينِ عِندَ الحَنابلةِ [718] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/208)، ((عمدة الحازم)) لابن قدامة (ص:157)، ((الفروع)) لابن مفلح (4/287)، ((القواعد والفوائد الأصولية)) لابن اللحام (1/355). ، وعِندَ المالكيَّةِ: يَأخُذُها إن كانت قائِمةً بعَينِها وعَلِم هَلاكَ النِّصابِ، أو بَيَّن أنَّها زَكاةٌ مُعَجَّلةٌ وقتَ الدَّفعِ، وإن لم يُبَيِّنْ ذلك لم يُقبَلْ قَولُه [719] يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/363). ، وعِندَ الحَنَفيَّةِ: إذا كان صَرفُها إلى الفُقَراءِ تَقَعُ تَطَوُّعًا، وإن كانت قائِمةً بعَينِها في يَدِ الإمامِ أوِ السَّاعي استَرَدَّها [720] يُنظر: ((الجوهرة النيرة)) للزبيدي (1/121). ، وعِندَ الشَّافِعيَّةِ: يُنظَرُ فيه، فإن لم يُبَيِّنْ أنَّها زَكاةٌ مُعَجَّلةٌ لم يَجُزْ له الرُّجوعُ، فإنَّ الظَّاهرَ أنَّ ذلك زَكاةٌ واجِبةٌ أو صَدَقةُ تَطَوُّعٍ، وقد لزِمَت بالقَبضِ فلم يَملِكِ الرُّجوعَ، وإن بَيَّن أنَّها زَكاةٌ مُعَجَّلةٌ ثَبَتَ له الرُّجوعُ؛ لأنَّه دَفعَ عَمَّا يَستَقِرُّ في الثَّاني، فإذا طَرَأ ما يَمنَعُ الاستِقرارَ ثَبَتَ له الرُّجوعُ كَما لو عَجَّل أُجرةَ دارٍ ثُمَّ انهَدَمَتِ الدَّارُ قَبلَ انقِضاءِ المُدَّةِ، وإن كان الذي عَجَّل هو السُّلطانُ أوِ المُصَدِّقُ مِن قِبَلِه ثَبَتَ له الرُّجوعُ بَيَّن أو لم يُبَيِّنْ؛ لأنَّ السُّلطانَ لا يَستَرجِعُه لنَفسِه، فلم تَلحَقْه تُهمةٌ [721] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/306). .

انظر أيضا: