موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الخامِسُ: المَعصيةُ تَعظُمُ بحَسَبِ الزَّمانِ والمَكانِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "المَعصيةُ تُغَلَّظُ بحَسَبِ الزَّمانِ والمَكانِ" [358] يُنظر: ((سبك المقال)) لأنور أبوزيد (ص: 77-78). ويُنظر لمزيد استثناءات: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 136). ، و"المَعصيةُ تُغَلَّظُ بالزَّمانِ والمَكانِ" [359] يُنظر: ((شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة)) (1/289)، ((الدر الثمين)) لميارة (ص: 469). ، ويُعَبَّرُ عنها بـ"غِلَظُ المَعصيةِ وعِقابُها بقَدرِ فضيلةِ الزَّمانِ والمَكانِ" [360] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/ 527)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 430). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
فَضَّل اللهُ عَزَّ وجَلَّ بَعضَ الزَّمانِ على بَعضٍ، كَشَهرِ رَمَضانَ، والأشهُرِ الحُرُمِ، وليلةِ القَدرِ، والعَشرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ، وعَشرِ ذي الحِجَّةِ، ويَومِ عَرَفةَ، وغَيرِها مِنَ الأزمِنةِ المُفضَّلةِ، كَما فضَّل بَعضَ الأمكِنةِ على بَعضٍ، كالمَسجِدِ الحَرامِ، والمَسجِدِ النَّبَويِّ، والمَسجِدِ الأقصى، ومَكَّةَ والمَدينةِ، والمَساجِدِ وغَيرِها، ولمَّا كانت بَعضُ الأزمِنةِ والأمكِنةِ أفضَلَ مِن بَعضٍ كانتِ المَعاصي فيما أهو أفضَلُ أكبَرَ إثمًا وأخطَرَ عاقِبةً مِن غَيرِها مِنَ الأزمِنةِ والأمكِنةِ؛ لهَتكِها شَرَفَ الزَّمانِ أوِ المَكانِ [361] يُنظر: ((شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة)) (1/289)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/397،396)، ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (2/396)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/180)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (6/179). .
وهذه القاعِدةُ تَدخُلُ ضِمنَ جُملةِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ في الأسبابِ باعتِبارِ أنَّ مُراعاةَ بَعضِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ صارَت سَبَبًا في تَعظيمِ الحَرامِ والتَّغليظِ مِن شَأنِه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ.
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة: 36] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الظُّلمَ وإن كان عَظيمًا في كُلِّ وقتٍ إلَّا أنَّ الأشهُرَ الحُرُمَ لمَّا كان شَأنُها عَظيمًا كان الذَّنبُ والظُّلمُ فيها أعظَمَ مِنَ الظُّلمِ فيما سِواهنَّ، وإن كان الظُّلمُ على كُلِّ حالٍ عَظيمًا، ولكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِن أمرِه ما شاءَ [362] يُنظر: ((الكشف والبيان)) للثعلبي (5/43)، ((تفسير البغوي)) (2/345). .
- وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الإلحادَ بظُلمٍ -وهو كُلُّ المَعاصي على قَولِ بَعضِ المُفسِّرينَ، أو كَبائِرُها كَما قاله آخَرونَ- أمرٌ مُحَرَّمٌ في جَميعِ المَواضِعِ إلَّا أنَّ تَخصيصَه بالحَرَمِ لمَزيدِ شَرَفِه، فكان تَحريمُ الذَّنبِ فيه أشَدَّ وأغلَظَ [363] يُنظر: ((التفسير المحرر – سورة الحج)) إعداد الدرر السنية ((18/131-133، 135). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أبغَضُ النَّاسِ إلى اللهِ ثَلاثةٌ: مُلحِدٌ في الحَرَمِ، ومُبتَغٍ في الإسلامِ سُنَّةَ الجاهليَّةِ، ومُطَّلِبُ دَمِ امرِئٍ بغَيرِ حَقٍّ ليُهَريقَ دَمَه )) [364] أخرجه البخاري (6882). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على أنَّ المَعاصيَ تُغلَّظُ بمُقارَنةِ أحوالِ وُقوعِها في أماكِنَ ومَحالَّ تَزيدُها غِلظةً وشَرًّا [365] يُنظر: ((الإفصاح)) لابن هبيرة (3/113)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/239). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- وُجوبُ حِفظِ اللِّسانِ والجَوارِحِ عنِ الحَرامِ في شَهرِ رَمَضانَ، وإن كان المُسلمُ مُطالبًا به في جَميعِ حَياتِه إلَّا أنَّه في شَهرِ رَمَضانَ أشَدُّ مُطالبةً بذلك لفَضلِه؛ لأنَّ المَعصيةَ تُغلَّظُ بالزَّمانِ [366] يُنظر: ((شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة)) (1/289)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/397،396). .
2- الحَرَمُ مَكانٌ مُعظَّمٌ يَقصِدُه أهلُ المَيلِ ليَستَقيموا، وأهلُ الاستِقامةِ ليَزدادوا قُربًا؛ لذا كانتِ المَعصيةُ فيه أعظَمَ مِنها في غَيرِه؛ لأنَّه إذا مال عنِ الحَقِّ في ذلك المَوضِعِ الذي يَقصِدُه النَّاسُ ليَستَقيموا اشتَدَّ غَضَبُ اللهِ عليه؛ لأنَّ المَعصيةَ في المَوضِعِ الشَّريفِ أقبَحُ [367] يُنظر: ((الإفصاح)) لابن هبيرة (3/113)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/239)، ((العزيز)) للرافعي (10/315)، ((الإلحاد والظلم في المسجد الحرام)) لابن سعد (ص: 169). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
تَنبيهٌ:
مُضاعَفةُ وتَغليظُ السَّيِّئةِ إنَّما هو بالكَيفِ لا بالكَمِّ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] ، وقال: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] ، ولم يَقُلْ: نُضاعِفْ له ذلك، فتَكونُ مُضاعَفةُ السَّيِّئةِ في مَكَّةَ أو في المَدينةِ مُضاعَفةَ كَيفيَّةٍ [368] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (7/ 227). .

انظر أيضا: