موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: الأصلُ في الشُّروطِ الجَوازُ والصِّحَّةُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "الأصلُ في الشُّروطِ الصِّحَّةُ واللُّزومُ إلَّا ما دَلَّ الدَّليلُ على خِلافِه" [369] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/346). ، وبصيغةِ: "الأصلُ في الشُّروطِ الصِّحَّةُ إلَّا ما خالف حُكمَ اللهِ تعالى ورَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" [370] يُنظر: ((الفروسية المحمدية)) لابن القيم (ص: 314). .
واستُعمِلتِ القاعِدةُ كذلك بإدراجِ العُقودِ مَعَ الشُّروطِ، ومِن هذه الصِّيَغِ ما يَلي:
"الأصلُ في العُقودِ والشُّروطِ الجَوازُ والصِّحَّةُ، ولا يَحرُمُ مِنها ويَبطُلُ إلَّا ما دَلَّ الشَّرعُ على تَحريمِه وإبطالِه" [371] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/132)، ((القواعد النورانية)) (ص: 261) كلاهما لابن تيمية. . وكذلك بصيغةِ: "الأصلُ في العُقودِ والشُّروطِ الصِّحَّةُ إلَّا ما أبطَله الشَّارِعُ أو نَهى عنه" [372] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/167)، ((أضواء البيان)) لمحمد الأمين الشنقيطي (4/818). . وكذلك بصيغةِ: "الأصلُ في العُقودِ والشُّروطِ الصِّحَّةُ ما لم يَدُلَّ دَليلٌ على المَنعِ" [373] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/470). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الأصلُ في جَميعِ الشُّروطِ الجَوازُ والصِّحَّةُ ما لم يُنافِ مَقصودَ العَقدِ بحِلِّ الحَرامِ أو تَحريمِ الحَلالِ الثَّابتَينِ بنَصٍّ أو إجماعٍ، فلا يَحرُمُ مِنها ولا يَبطُلُ إلَّا ما دَلَّ الشَّرعُ على تَحريمِه وإبطالِه، سَواءٌ في النِّكاحِ أو في البَيعِ، أو في الإجارةِ، أو في الرَّهنِ، أو في الوَقفِ.
وحُكمُ الشُّروطِ المَشروطةِ في العُقودِ إذا كانت صَحيحةً أنَّه يَجِبُ الوفاءُ بها، ولا فَرقَ بَينَ الشُّروطِ في المُعامَلاتِ، وفي الأنكِحةِ، فكُلُّها يَجِبُ الوفاءُ بها؛ لعُمومِ قَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ؛ فإنَّ الوفاءَ بالعَقدِ يَتَضَمَّنُ الوفاءَ به وبما تضَمَّنه مِن شُروطٍ وصِفاتٍ؛ لأنَّه كُلَّه داخِلٌ في العَقدِ.
والكَلامُ في مَسألةِ الأصلِ في الشُّروطِ مُرتَبِطٌ ارتِباطًا لازِمًا في مَسألةٍ شَبيهةٍ بها: وهيَ الأصلُ في العُقودِ؛ ولذلك جاءَت مُرتَبطةً بها في بَعضِ صيَغِ القاعِدةِ، وسَبَبُ الجَمعِ بَينَهما: أنَّ الكَلامَ على حُرِّيَّةِ الاشتِراطِ يَسبِقُه أو يُقارِنُه بالضَّرورةِ الكَلامُ على حُرِّيَّةِ التَّعاقُدِ؛ لأنَّه إذا كانتِ العُقودُ مَقصورةً على ما نَصَّ عليه الشَّارِعُ فإنَّ الشُّروطَ المُتَعَلِّقةَ بهذه العُقودِ سَتَقتَصِرُ في الغالِبِ أيضًا على ما نَصَّ عليه الشَّارِعُ، وعلى العَكسِ إذا كانتِ العُقودُ مُطلَقةً مِن هَذا القَيدِ ويَستَطيعُ المُكَلَّفُ أن يُبرِمَ ما يَحتاجُه مِنَ العُقودِ مَعَ اجتِنابِ ما نُصَّ على تَحريمِه فقد يُؤَدِّي هذا إلى القَولِ بحُرِّيَّةِ الاشتِراطِ [374] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/132)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (12/164)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 258)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (5/215)، ((القواعد الفقهية وتطبيقاتها)) لمحمد الزحيلي (2/813). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَوْفُوا ‌بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] .
- وقال اللهُ تعالى: وَالْمُوفُونَ ‌بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البَقَرة: 177] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيَتَينِ:
دَلَّتِ الآيَتانِ على الأمرِ بالوفاءِ بالعُهودِ، والشُّروطِ، والمَواثيقِ، وإذا كان حُسنُ الوفاءِ ورِعايةُ العَهدِ مَأمورًا به عُلمَ أنَّ الأصلَ صِحَّةُ الشُّروطِ؛ إذ لا مَعنى للتَّصحيحِ إلَّا ما تَرَتَّبَ عليه أثَرُه، وحَصَل به مَقصودُه. ومَقصودُه: هو الوفاءُ به، وإذا كان الشَّرعُ قد أمَرَ بمَقصودِ العُهودِ دَلَّ على أنَّ الأصلَ فيها الصِّحَّةُ والإباحةُ [375] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/146)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (5/219). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنِ اشتَرَطَ شَرطًا ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ، وإنِ اشتَرَطَ مِئةَ شَرطٍ؛ شَرطُ اللَّهِ أحَقُّ وأوثَقُ )) [376] أخرجه البخاري (2155) واللفظ له، ومسلم (1504). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
إذا كان المَشروطُ مُخالفًا لكِتابِ اللهِ وشَرطِه كان الشَّرطُ باطِلًا، فليسَ هو مِمَّا أباحَه اللهُ تعالى، كاشتِراطِ النَّسَبِ لغَيرِ الوالِدِ، والوَطءِ بغَيرِ نِكاحٍ، وتَزَوُّجِ المَرأةِ بلا مَهرٍ، ونَحوِ ذلك مِمَّا لم يُبِحْه اللهُ بحالٍ؛ ولهذا قال: "شَرطُ اللَّهِ أحَقُّ وأوثَقُ"، وهذا إنَّما يُقالُ إذا كان المَشروطُ يُناقِضُ كِتابَ اللهِ وشَرطَه، فيَجِبُ تَقديمُ كِتابِ اللهِ وشَرطِه، وأمَّا إذا كان نَفسُ الشَّرطِ والمَشروطِ لم يَنُصَّ اللَّهُ على حِلِّه بَل سَكَتَ عنه، فليسَ هو مُناقِضًا لكِتابِ اللهِ وشَرطِه [377] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/347). .
- وعن عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أحَقُّ الشُّروطِ أن توفوا به ما استَحللتُم به الفُروجَ )) [378] أخرجه البخاري (2721) واللفظ له، ومسلم (1418). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ الوفاءَ بالشُّروطِ في النِّكاحِ أَولى مِنها في غَيرِه مِنَ العُقودِ؛ لأنَّ أمرَه أحوَطُ، وبابَه أضيَقُ [379] يُنظر: ((صحيح فقه السنة)) لكمال سالم (3/157). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِن الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الشَّرطُ الجَزائيُّ شَرطٌ صحيحٌ يَلزَمُ الأخذُ به؛ لأنَّه وُضِعَ بموافقةِ الطَّرَفينِ ورِضاهما، وهو مِن مَصلحةِ العَقدِ؛ لِما يَتَرَتَّبُ عليه مِن إنجازِ ما تَمَّ التَّعاقُدُ عليه في وقتِه؛ والأصلُ في الشُّروطِ الجَوازُ والصِّحَّةُ إلَّا ما ورَدَ الشَّرعُ بمَنعِه [380] يُنظر: ((الفقه الميسر)) لعبد الله الطيار وآخرين (10/33). .
2- يَجوزُ بَيعُ العُرْبونِ بشَرطِ أن يَكونَ الأجَلُ في الخيارِ مُحَدَّدًا بوقتٍ مُعَيَّنٍ؛ لأنَّه إذا خَلا مِن خيارٍ مُحَدَّدٍ بوقتٍ مُعَيَّنٍ كان بمَنزِلةِ الخيارِ المَجهولِ، وعَدَمُ التَّوقيتِ في الخيارِ يُبطِلُ البَيعَ فإنَّه مَتى اشتَرَطَ أنَّ له رَدَّ البَيعِ مِن غَيرِ ذِكرِ مُدَّةٍ لم يَصِحَّ، وهذا يَنبَني على أنَّ الأصلَ في الشُّروطِ الجَوازُ والصِّحَّةُ حتَّى يَقومَ دَليلٌ على المَنعِ [381] يُنظر: ((المعاملات المالية)) للدبيان (5/462). .
3- قَرَّرَ مَجمَعُ الفِقهِ الإسلاميِّ في مَوضوعِ (قَضايا العُملةِ) أنَّه: يَجوزُ أن تَتَضَمَّنَ أنظِمةُ العَمَلِ واللَّوائِحِ والتَّرتيباتِ الخاصَّةِ بعُقودِ العَمَلِ التي تَتَحَدَّدُ فيها الأُجورُ بالنُّقودِ شَرطَ الرَّبطِ القياسيِّ للأُجورِ، على ألَّا يَنشَأَ عن ذلك ضَرَرٌ للاقتِصادِ العامِّ. والمَقصودُ هنا بالرَّبطِ القياسيِّ للأُجورِ تَعديلُ الأُجورِ بصورةٍ دَوريَّةٍ، تَبَعًا للتَّغَيُّرِ في مُستَوى الأسعارِ، وَفقًا لِما تُقدِّرُه جِهةُ الخِبرةِ والاختِصاصِ، والغَرَضُ مِن هذا التَّعديلِ حِمايةُ الأجرِ النَّقديِّ للعامِلينَ مِنِ انخِفاضِ القُدرةِ الشِّرائيَّةِ لمِقدارِ الأجرِ بفِعلِ التَّضَخُّمِ النَّقديِّ، وما يَنتُجُ عنه مِنَ الارتِفاعِ المُتَزايِدِ في المُستَوى العامِّ لأسعارِ السِّلعِ والخِدماتِ؛ وذلك لأنَّ الأصلَ في الشُّروطِ الجَوازُ، إلَّا الشَّرطَ الذي يُحِلُّ حَرامًا، أو يُحَرِّمُ حَلالًا [382] يُنظر: ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) (8/1750). .

انظر أيضا: