موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: كُلُّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
أصلُ هذه القاعِدةِ نَصُّ حَديثٍ نَبَويٍّ [383] لفظُه: قالت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ((دَخَل عليَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذَكَرتُ له، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اشتَري وأعتِقي، فإنَّما الولاءُ لمَن أعتَقَ، ثُمَّ قامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ العَشيِّ، فأثنى على اللهِ بما هو أهلُه، ثُمَّ قال: ما بالُ أُناسٍ يَشتَرِطونَ شُروطًا ليسَ في كِتاب اللهِ؟ مَنِ اشتَرَطَ شَرطًا ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ، وإنِ اشتَرَطَ مِئةَ شَرطٍ؛ شَرطُ اللهِ أحَقُّ وأوثَقُ)). أخرجه البخاري (2155) واللَّفظُ له، ومسلم (1504). ، وقدِ اشتَهَرَ استِعمالُ الفُقَهاءِ لها بهذه الصِّيغةِ [384] يُنظر: ((شرح الرسالة)) للقاضي عبد الوهاب (1/322)، ((التجريد)) للقدوري (5/2567)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/313)، ((المهذب)) للشيرازي (2/94)، ((المبسوط)) للسرخسي (5/221)، ((البيان)) للعمراني (9/389)، ((المغني)) لابن قدامة (14/571). . واستُعمِلت أيضًا بصيغةِ: "كُلُّ شَرطٍ ليسَ في حُكمِ اللهِ فهو مُخالفٌ له، فيَكونُ باطِلًا" [385] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/175)، ((أضواء البيان)) لمحمد الأمين الشنقيطي (4/821)، ((التحفة المكية)) لمحمد الشاوي (ص: 249). ، وبصيغةِ: "كُلُّ شَرطٍ ليسَ في حُكمِ اللهِ وقَضائِه في كِتابِه أو سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو باطِلٌ" [386] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/357)، ((عمدة القاري)) للعيني (14/20). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ الشَّرطَ إذا ثَبَتَ مُنافاتُه لمُقتَضَياتِ الشَّرعِ بحَيثُ تَتَعَطَّلُ الغايةُ الشَّرعيَّةُ مِنَ العَقدِ إن كان في العُقودِ، فعِندَئِذٍ يَبطُلُ العَقدُ أوِ الشَّرطُ، فيَبطُلُ العَقدُ إذا كان الشَّرطُ يُعَطِّلُ رُكنًا مِن أركانِه، أو يُعارِضُ مَقصودًا أصليًّا للعَقدِ، كاشتِراطِ عَدَمِ حِلِّ الزَّوجةِ لزَوجِها في عَقدِ الزَّواجِ مَثَلًا، أو يَمنَعُ أحَدَ المُتَبايِعَينِ مِنَ الانتِفاعِ بالمَبيعِ، فهنا يَبطُلُ العَقدُ. وقد يَبطُلُ الشَّرطُ فقَط إذا كان لا يُعَطِّلُ رُكنًا مِن أركانِ العَقدِ، كَمَن يَشتَرِطُ عَدَمَ الدُّخولِ بالمَرأةِ بالنِّسبةِ لعَقدِ النِّكاحِ، أو يُقَيِّدُ استِعمالَ المُشتَري للمَبيعِ، فهنا يَلغو الشَّرطُ ويَصِحُّ العَقدُ؛ لأنَّ استِمتاعَ الرَّجُلِ بالمَرأةِ مَقصودٌ أصليٌّ مِن مَقاصِدِ عَقدِ النِّكاحِ، وهو ثابتٌ شَرعًا. وكذلك حُرِّيَّةُ التَّصَرُّفِ في المَبيعِ ثابتةٌ للمُشتَري قَطعًا [387] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/79)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/505)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (14/155)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/347)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/371)، ((التحرير)) للأصبهاني (ص: 315)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 399)، ((شرح القواعد السعدية)) لعبدالمحسن الزامل (ص: 175). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما بالُ أُناسٍ يَشتَرِطونَ شُروطًا ليسَ في كِتابِ اللهِ؟! مَنِ اشتَرَطَ شَرطًا ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ، وإنِ اشتَرَطَ مِائةَ شَرطٍ؛ شَرطُ اللَّهِ أحَقُّ وأوثَقُ )) [388] أخرجه البخاري (2155) واللفظ له، ومسلم (1504). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبطَل كُلَّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، إذا كان في كِتابِ اللهِ خِلافُه [389] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/79). .
- ويُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ أيضًا بأدِلَّةِ السُّنَّةِ السَّابقةِ في قاعِدةِ (الأصلُ في الشُّروطِ الجَوازُ والصِّحَّةُ).
2- مِنَ الإجماعِ:
وممَّن نَقَله: ابنُ بَطَّالٍ [390] قال: (أجمَعَ العُلماءُ أنَّ مَن شَرَطَ ما لا يَجوزُ في السُّنَّةِ أنَّه لا يَنفعُه شَرطُه ذلك، وأنَّه مَردودٌ، في بَيعٍ كان الشَّرطُ، أو عِتقٍ، أو غَيرِ ذلك مِنَ الأحكامِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَخُصَّ شَيئًا دونَ غَيرِه، بَل عَمَّ الأشياءَ كُلَّها في حَديثِ بَريرةَ... وقَولُه: "كُلُّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ" مَعناه في حُكمِ اللهِ وقَضائِه مِن كِتابِه وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإجماعِ الأُمَّةِ، فهو باطِلٌ). ((شرح صحيح البخاري)) (7/79). ، ونَقَله عنه ابنُ المُلقِّنِ [391] يُنظر: ((التوضيح)) (16/263). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لا يَجوزُ للمُعتَكِفِ أن يَشتَرِطَ خُروجَه مِنِ اعتِكافِه لعارِضٍ أو غَيرِه؛ لأنَّها تَكونُ عِبادةً اشتُرِط فيها خِلافُ مُوجِبِ عَقدِها المُطلَقِ ونَقيضُه، فوجَبَ ألَّا يَصِحَّ؛ اعتِبارًا بالصَّلاةِ والصِّيامِ؛ لأنَّ كُلَّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ [392] يُنظر: ((شرح الرسالة)) للقاضي عبد الوهاب (1/322). .
2- إذا شَرَطَتِ المَرأةُ على زَوجِها ألَّا يَنكِحَ عليها، فهو شَرطٌ باطِلٌ؛ لأنَّها قد حَظَرَت عليه ما وسَّعَ اللهُ تعالى عليه؛ فقد أحَلَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ للرَّجُلِ أن يَنكِحَ أربَعًا، وهذا الشَّرطُ خِلافُ كِتابِ اللهِ، بَل فيه تَحريمُ ما أباحَه اللهُ تعالى للزَّوجِ مِنَ النِّكاحِ [393] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/79)، ((اختلاف الفقهاء)) للمروزي (ص: 341)، ((الإشراف)) لابن المنذر (5/69). .
3- إذا اشتَرى عُملةً على أن يَكونَ تَسديدُ قيمَتِها على أقساطٍ شَهريَّةٍ، فلا يَجوزُ، ويَحرُمُ على الإنسانِ إذا صَرَف عُملةً أن يَتَفرَّقَ هو والبائِعُ مِن مَجلِسِ العَقدِ إلَّا بَعدَ قَبضِ العِوَضَينِ، وعلى هذا فيَكونُ هذا الشَّرطُ باطِلًا [394] يُنظر: ((فتاوى إسلامية)) لابن باز وابن عثيمين (2/385)، ((الربا)) لسعيد بن وهف القحطاني (ص: 48). .

انظر أيضا: