موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّاني: مِنَ القَواعِدِ المُندَرِجةِ تَحتَ قاعِدةِ: إيقاعُ السَّبَبِ بمَنزِلةِ إيقاعِ المُسَبَّبِ، قُصِدَ ذلك المُسَبَّبُ أو لا: قاعِدةُ إذا اجتَمَعَ المُباشِرُ والمُتَسَبِّبُ أُضيف الحُكمُ إلى المُباشِرِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إذا اجتَمَعَ المُباشِرُ والمُتَسَبِّبُ أُضيف الحُكمُ إلى المُباشِرِ" [346] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 135). ، واستُعمِلَت بصيغةِ: "إذا اجتَمَعَ التَّسَبُّبُ والمُباشَرةُ اعتُبرَتِ المُباشَرةُ دونَه" [347] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/28). ، وبصيغةِ: "إذا اجتَمَعَ السَّبَبُ والمُباشَرةُ أوِ الغُرورُ والمُباشَرةُ قُدِّمَتِ المُباشَرةُ" [348] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/133)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 162). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
المُباشِرُ: هو مَن يَحصُلُ التَّلَفُ بفِعلِه مِن غَيرِ أن يَتَخَلَّلَ بَينَ فِعلِه والتَّلَفِ فِعلُ فاعِلٍ مُختارٍ، والمُتَسَبِّبُ بخِلافِه؛ فهو الذي تَخَلَّل بَينَ فِعلِه والأثَرِ المُتَرَتِّبِ عليه -مِن تَلفٍ أو غَيرِه- فِعلُ فاعِلٍ مُختارٍ، فلوِ اجتَمَعَ في أمرٍ تَسَبُّبٌ ومُباشَرةٌ، بأن حَفرَ إنسانٌ بئرًا فدَفعَ شَخصٌ شَخصًا فيها، فالحافِرُ مُتَسَبِّبٌ والدَّافِعُ مُباشِرٌ، فيُضافُ الحُكمُ إلى المُباشِرِ دونَ المُتَسَبِّبِ، وهذا إذا كان السَّبَبُ لا يَعمَلُ في الإتلافِ إذا انفرَدَ عنِ المُباشَرةِ، كحَفرِ البئرِ؛ فإنَّه بانفِرادِه لا يوجِبُ التَّلَفَ ما لم يوجَدِ الدَّفعُ الذي هو المُباشَرةُ، وقد تَكونُ المُباشَرةُ مَغمورةً بجانِبِ التَّسَبُّبِ فتُهمَلُ ويُجعَلُ الضَّمانُ على المُتَسَبِّبِ وَحدَه، وذلك لوِ انفرَدَ السَّبَبُ وأتلَفَ بمُفرَدِه ووقَعَتِ المُباشَرةُ مِن نَفسِ المَقتولِ جَهلًا، كَتَقديمِ السُّمِّ لإنسانٍ في طَعامِه فيَأكُلُه جاهلًا به، فإنَّه مُباشِرٌ لقَتلِ نَفسِه، وواضِعُ السُّمِّ مُتَسَبِّبٌ، فالقِصاصُ على المُتَسَبِّبِ وَحدَه لقوَّةِ التَّسَبُّبِ، أو إذا وقَعَتِ المُباشَرةُ مِنَ القاضي، كَما إذا شَهِدَ شُهودُ الزُّورِ، فإنَّهم يَضمَنونَ ما أتلَفوه بشَهادَتِهم؛ لأنَّهم مُتَسَبِّبونَ، ولا يَضمَنُ الحاكِمُ شَيئًا مَعَ أنَّه المُباشِرُ، والشَّاهِدُ مُتَسَبِّبٌ، وإذا تَساوى التَّسَبُّبُ والمُباشَرةُ فيَتَساويانِ في الضَّمانِ، وتُعتَبرُ هذه القاعِدةُ مُكملةً لقاعِدةِ (إيقاعُ السَّبَبِ بمَنزِلةِ إيقاعِ المُسَبَّبِ) [349] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/208) و(4/28)، ((المنثور)) للزركشي (1/133)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 162)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/466)، ((تهذيب الفروق)) لمحمد علي حسين (2/206)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 448). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالمَعقولِ: وهو أنَّ المُباشَرةَ أقوى مِنَ التَّسَبُّبِ، وشَأنُ الشَّريعةِ تَقديمُ الأقوى عِندَ التَّعارُضِ [350] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/208). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو حَفرَ إنسانٌ بئرًا بغَيرِ حَقٍّ، بأن حَفرَها في مِلكِ غَيرِه، أو في طَريقٍ عامٍّ بغَيرِ إذنِ الإمامِ، وجاءَ شَخصٌ فدَفعَ إنسانًا فيها، فإنَّ الضَّمانَ على المُباشِرِ دونَ حافِرِ البِئرِ [351] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/6)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/434)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 135)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 162). .
2- لو دَفعَ سِكِّينًا إلى صَبيٍّ مُمَيِّزٍ ليُمسِكَه له، فقَتَل الصَّبيُّ به نَفسَه، فلا ضَمانَ على الدَّافِعِ المُتَسَبِّبِ؛ لأنَّه تَخَلَّل بَينَ فِعلِه والتَّلفِ فِعلُ فاعِلٍ مُختارٍ، وهو الصَّبيُّ؛ لأنَّه ضَرَب نَفسَه باختيارِه، ولو لم يَحصُلِ التَّلفُ باختيارِه، بأن وقعَ السِّكِّينُ مِن يَدِ الصَّبيِّ عليه فجَرَحَه، ضَمِنَ الدَّافِعُ [352] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 448). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
استَثنى بَعضُ أهلِ العِلمِ مِن هذه القاعِدةِ بَعضَ الحالاتِ التي يَضمَنُ فيها المُتَسَبِّبُ لا المُباشِرُ أو يَضمَنان مَعًا، مِنها:
1- إذا شَهدَ شاهدانِ بمالٍ فحَكَم الحاكِمُ به، ثُمَّ رَجَعا عن شَهادَتِهما، ضَمِنا المالَ المَشهودَ عليه، ولا ضَمانَ على القاضي اتِّفاقًا [353] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/482،481). .
2- إذا استَأجَرَه أحَدٌ لحَملِ طَعامٍ فسَلَّمَه مِقدارًا زائِدًا، فحَمَله المُؤَجِّرُ جاهلًا، فتَلفتِ الدَّابَّةُ، ضَمِنَها المُستَأجِرُ [354] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 162). .
3- إذا أفتى مَن هو أهلٌ للفتوى بإتلافِ شَيءٍ ثُمَّ تَبيَّنُ خَطَؤُه، فالضَّمانُ على المُفتي [355] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 162). .
4- إذا كان المُتَسَبِّبُ دابَّةً فيَضمَنُ المسؤولُ عنها [356] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 162). .
5- إذا عَبثَ أحَدُهم بكابحِ السَّيَّارةِ وتَرَكَها تَتَحَرَّكُ وليسَ فيها أحَدٌ، فتُتلفُ المُمتلكاتِ والأنفُسَ، فالضَّامِنُ هو العابثُ؛ إذ لا يُمكِنُ الإحالةُ إلى السَّيَّارةِ؛ لأنَّها عَجماءُ، والعَجماءُ جُبَارٌ، فإن كان عليها سائِقٌ وأَذِنَ للعابثِ، فكِلاهما ضامِنٌ [357] يُنظر: ((سبك المقال)) لأنور أبوزيد (ص: 77). .

انظر أيضا: