المَطلبُ الأوَّلُ: إيقاعُ السَّبَبِ بمَنزِلةِ إيقاعِ المُسَبَّبِ، قُصِدَ ذلك المُسَبَّبُ أو لا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إيقاعُ السَّبَبِ بمَنزِلةِ إيقاعِ المُسَبَّبِ، قُصِدَ ذلك المُسَبَّبُ أو لا"
[331] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/335). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ"ما نَشَأَ عنِ الأسبابِ مِنَ المُسَبَّباتِ فمَنسوبٌ إلى المُكَلَّفِ حُكمُه مِن جِهةِ التَّسَبُّبِ"
[332] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/480). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. أجرى اللهُ عَزَّ وجَلَّ سُنَّتَه في كَونِه بابتِناءِ المُسَبَّباتِ على الأسبابِ وترَتُّبِها عليها، خَيرًا كانت أو شَرًّا، فإذا قَصَدَ المُكَلَّفُ فِعلًا مِنَ الأفعالِ خَيرًا كان أو شَرًّا فإنَّه مَسؤولٌ عنِ المُسَبَّباتِ النَّاتِجةِ عن فِعلِه سَواءٌ عَلِم بتَفاصيلِها أو جَهِلَ؛ وذلك لأنَّ ما أمَرَ اللهُ به فإنَّما هو لمَصلحةٍ يَقتَضيها فِعلُه، وما نَهى عنه فإنَّما هو لمَفسَدةٍ يَقتَضيها فِعلُه، فإذا فعَله المُكَلَّفُ فقدِ التَزَمَ ما تَحتَ السَّبَبِ مِنَ المَصالِحِ أوِ المَفاسِدِ، ولا يُخرِجُه عن هذه المَسؤوليَّةِ عَدَمُ عِلمِه بالمَصلَحةِ أوِ المَفسَدةِ أو بمَقاديرِهما
[333] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/338). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12] .
وَجهُ الدَّلالةِ:بَيَّنَتِ الآيةُ أنَّ النَّاسَ مَسؤولونَ عن أعمالِهمُ التي عَمِلوها وباشَروها في حَياتِهم، وعن آثارِ الخَيرِ وآثارِ الشَّرِّ التي كانوا همُ السَّبَبَ في إيجادِها في حالِ حَياتِهم وبَعدَ وفاتِهم، وتلك الأعمالِ التي نَشَأت مِن أقوالِهم وأفعالِهم وأحوالِهم؛ فكُلُّ خَيرٍ عَمِل به أحَدٌ مِنَ النَّاسِ بسَبَبِ عِلمٍ أودَعَه عِندَ المُتَعَلِّمينَ، أو عَمِل خَيرًا فاقتَدى به غَيرُه في فِعلِه، أو غَيرَ ذلك، فإنَّها مِن آثارِه التي تُكتَبُ له، وكذلك عَمَلُ الشَّرِّ كَما هو أحَدُ الوُجوهِ في تَفسيرِ الآيةِ
[334] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (26/258)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 692). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ليسَ مِن نَفسٍ تُقتَلُ ظُلمًا، إلَّا كان على ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفلٌ مِنها )) [335] أخرجه البخاري (7321) واللفظ له، ومسلم (1677). .
وَجهُ الدَّلالةِ:بَيَّنَ الحَديثُ أنَّ أوَّلَ مَن قَتَل ظُلمًا فإنَّه مُؤاخَذٌ على كُلِّ نَفسٍ قُتِلت ظُلمًا بَعدَ ذلك؛ عُقوبةً على ما سَنَّه مِنَ القَتلِ، فعوقِبَ على آثارِ فِعلِه وإن لم يَكُنْ يَقصِدُه
[336] يُنظر: ((شرح المشكاة)) للطيبي (2/671)، ((عمدة القاري)) للعيني (15/215)، ((ذخيرة العقبى)) للإثيوبي (20/137). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن دَعا إلى هدًى كان له مِنَ الأجرِ مِثلُ أُجورِ مَن تَبِعَه، لا يَنقُصُ ذلك مِن أُجورِهم شَيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالةٍ كان عليه مِنَ الإثمِ مِثلُ آثامِ مَن تَبِعَه، لا يَنقُصُ ذلك مِن آثامِهم شَيئًا)) [337] أخرجه مسلم (2674). .
وَجهُ الدَّلالةِ:بَيَّنَ الحَديثُ أنَّ الثَّوابَ والعِقابَ كَما أنَّه يَتَرَتَّبُ على ما يُباشِرُه ويُزاوِلُه العَبدُ فإنَّه يَتَرَتَّبُ أيضًا على ما هو سَبَبٌ مِن فِعلِه، كالإرشادِ إليه والحَثِّ عليه، ولمَّا كانتِ الجِهةُ التي بها استَوجَبَ المُسَبِّبُ الأجرَ والجَزاءَ غَيرَ الجِهةِ التي استَوجَبَ بها المُباشِرُ، لم يَنقُصْ أجرُه مِن أجرِه شَيئًا
[338] يُنظر: ((تحفة الأبرار)) البيضاوي (1/133)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/263). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عنه عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يَدعو له )) [339] أخرجه مسلم (1631). .
وَجهُ الدَّلالةِ:بَيَّنَ الحَديثُ أنَّ الإنسانَ يُؤجَرُ على فِعلِ الخَيرِ كَما يُؤجَرُ على الآثارِ النَّاتِجةِ عنه وإن لم يَكُنْ قد قَصَدَها بعَينِها، لكِن لمَّا كان سَبَبًا في حُصولِها بَقيَت له أُجورُها ما بَقيَت ووُجِدَت تلك الأعمالُ
[340] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (5/37)، ((شرح النووي على مسلم)) (11/85)، ((ذخيرة العقبى)) للإتيوبي (20/137). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن شَرِبَ خَمرًا فسَكِرَ فإنَّه يُؤاخَذُ بما يَقتَرِفُه مِن جِناياتٍ على الأنفُسِ والأموالِ وإن كان عَقلُه ذاهبًا؛ لأنَّه لمَّا أدخَل السُّكْرَ على نَفسِه كان كالقاصِدِ لرَفعِ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ؛ فعومِلَ بنَقيضِ المَقصودِ، والشُّربُ سَبَبٌ لمَفاسِدَ كَثيرةٍ، فصارَ استِعمالُه له تَسَبُّبًا في تلك المَفاسِدِ، فيُؤاخِذُه الشَّرعُ بها وإن لم يَقصِدْها؛ لأنَّه فرَّطَ بإزالةِ عَقلِه فيما يُدخِلُ فيه ضَرَرًا على غَيرِه، فأُلزِمُ حُكمَ تَفريطَه؛ عُقوبةً له
[341] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (10/236)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/238)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (5/14،13)، ((الروض المربع)) (ص: 560)، ((شرح منتهى الإرادات)) (3/75) كلاهما للبهوتي، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (3/197). .
2- إماطةُ الأذى عنِ الطَّريقِ سَبَبٌ في سَلامةِ المارِّينَ في الطُّرُقاتِ، وقدِ اعتَبَرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيقاعَ هذا السَّبَبِ بمَنزِلةِ إيقاعِ المُسَبَّبِ، فلمَّا تَسَبَّب إلى سَلامةِ أخيه المُسلمِ مِن ذلك الأذى، فكَأنَّه قد تَصَدَّقَ عليه بالسَّلامةِ مِنه
[342] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/592)، ((طرح التثريب)) للعراقي (2/304). ، فقال:
((وإماطةُ الأذى عنِ الطَّريقِ صَدَقةٌ )) [343] أخرجه البخاري (2989)، ومسلم (1009) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاري: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ سُلامى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقةٌ كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فيه الشَّمسُ: يَعدِلُ بَينَ الاثنَينِ صَدَقةٌ، ويُعينُ الرَّجُلَ على دابَّتِه فيَحمِلُ عليها، أو يَرفعُ عليها مَتاعَه: صَدَقةٌ، والكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقةٌ، وكُلُّ خُطوةٍ يَخطوها إلى الصَّلاةِ صَدَقةٌ، ويُميطُ الأذى عنِ الطَّريقِ صَدَقةٌ)). ، وبَيَّنَ ذلك ابنُ حَجَرٍ فقال: (ومَعنى كَونِ الإماطةِ صَدَقةً أنَّه تَسَبَّبَ إلى سَلامةِ مَن يَمُرُّ به مِنَ الأذى عنِ الطَّريقِ، فكَأنَّه حَصَل تَصَدُّقٌ عليه بذلك، فحَصَل له أجرُ الصَّدَقةِ)
[344] ((فتح الباري)) (5/114). .
3- مَن حَفرَ بئرًا بغَيرِ حَقٍّ بأن كانت بمِلكِ غَيرِه بغَيرِ إذنِه، أو بطَريقٍ عامٍّ لمَصلحةِ نَفسِه وبغَيرِ إذنِ الإمامِ، فإنَّه يَضمَنُ ما تَلِفَ بها ليلًا ونَهارًا؛ لأنَّه لمَّا أوقَعَ السَّبَبَ -وهو حَفرُ البئرِ- لزِمَه ما تَرَتَّبَ عليه مِن مُسَبَّباتٍ
[345] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (9/7)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (6/132)، ((مطالب أولي النهى)) لابن سعد (4/79،78). .