موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: كُلُّ ما حُرِّمَ لصِفتِه لا يُباحُ إلَّا بسَبَبِه، وما يُباحُ لصِفتِه لا يُحَرَّمُ إلَّا بسَبَبِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ ما حُرِّمَ لصِفتِه لا يُباحُ إلَّا بسَبَبِه، وما يُباحُ لصِفتِه لا يُحَرَّمُ إلَّا بسَبَبِه" [286] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/96). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ"ما كان حَرامًا بوصفِه وسَبَبِه أو بأحَدِهما فلا يَأتيه التَّحليلُ إلَّا مِن جِهةِ الضَّرورةِ أوِ الإكراهِ، وما كان حَلالًا بوصفِه فلا يَأتيه التَّحريمُ إلَّا مِن جِهةِ سَبَبِه" [287] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبدالسلام (2/111). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الأشياءُ التي أذِنَ الشَّارِعُ في فِعلِها أو تَناوُلِها لصِفةٍ فيها، كاشتِمالها على مَصلحةٍ، كالبُرِّ واللَّحمِ الطَّيِّبِ مِنَ الأنعامِ، أو لعَدَمِ مَفسَدَتِه ومَصلحَتِه؛ فإنَّها تَكونُ مُباحةَ الفِعلِ، ولا يَطرَأُ عليها التَّحريمُ إلَّا لسَبَبٍ حَدَثَ فيها جَلَب لها التَّحريمَ، كَأن تَكونَ مَغصوبةً أو مَسروقةً، والأشياءُ التي حَرَّمَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ لصِفةٍ فيها، كاشتِمالِها على مَفسَدةٍ تُناسِبُ التَّحريمَ، كالخَمرِ والميتةِ، فإنَّها تَكونُ مُحَرَّمةً، ولا يَتَغَيَّرُ حُكمُها إلى الإباحةِ إلَّا لسَبَبٍ مُبيحٍ، كالضَّرورةِ والإكراهِ.
وقد بَيَّنَ بَعضُ العُلماءِ أسبابَ التَّحريمِ والتَّحليلِ، وأنَّها على نَوعَينِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: قائِمٌ بالمَحَلِّ الذي يَتَعَلَّقُ به فِعلُ المُكَلَّفِ:
وذلك يَشمَلُ كُلَّ صِفةٍ قائِمةٍ بالمَحَلِّ موجِبةٍ للتَّحريمِ، كَصِفةِ الخَمرِ؛ فإنَّها مُحَرَّمةٌ لِما قامَ بشُربِها مِنَ الشِّدَّةِ المُطرِبةِ المُفسِدةِ للعُقولِ، وكالمَيتةِ حُرِّمَت لِما قامَ بها مِنَ الاستِقذارِ، وكالسُّمومِ القاتِلةِ حُرِّمَت لِما قامَ بها مِنَ الصِّفةِ القاتِلةِ.
ويَشمَلُ هذا النَّوعُ: القائِمَ بالمَحَلِّ مِن أسبابِ التَّحليلِ، وهو كُلُّ صِفةٍ قائِمةٍ بالمَحَلِّ موجِبةٍ للتَّحليلِ، كَصِفةِ البُرِّ والشَّعيرِ والرُّطَبِ والعِنَبِ والإبِلِ والبَقَرِ.
والنَّوعُ الثَّاني: خارِجٌ عنِ المَحَلِّ:
وذلك يَشمَلُ الأسبابَ الباطِلةَ، كالغَصبِ والقِمارِ، والحُرِّيَّةِ المانِعةِ مِنَ البَيعِ، فهذه أسبابٌ خارِجةٌ عنِ المَحَلِّ موجِبةٌ لتَحريمِ الفِعلِ المُتَعَلّقِ به.
ويَشمَلُ كذلك الأسبابَ الصَّحيحةَ، كالبَيعِ الصَّحيحِ، والإجارةِ الصَّحيحةِ، والمُعامَلاتِ المَحكومِ بصِحَّتِها شَرعًا إمَّا بنَصٍّ أو إجماعٍ، فهذا حَلالٌ بسَبَبِه [288] يُنظر للمعنى الإجمالي: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبدالسلام (2/109- 111)، ((الفروق)) للقرافي (3/96). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ:
1- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء: 29] .
2- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 145] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيَتَينِ:
دَلَّتِ الآيةُ الأولى على أنَّ المُباحاتِ بوصفِها تَحرُمُ إذا نِيلَت بسَبَبٍ باطِلٍ، والباطِلُ: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما لا يَحِلُّ في الشَّرعِ، كالرِّبا والغَصبِ والسَّرِقةِ والخيانةِ والعُقودِ الفاسِدةِ، وكُلُّ مُحَرَّمٍ مَحظورٌ [289] يُنظر: ((التفسير البسيط)) للواحدي (6/467)، ((تفسير العز بن عبدالسلام)) (1/317)، ((تفسير القرطبي)) (5/150). .
أمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فإنَّها تَنُصُّ على أنَّ المُحَرَّماتِ المَذكورةَ فيها، وهيَ مُحَرَّماتٌ لصِفتِها، لا تَحِلُّ إلَّا بسَبَبٍ خارِجيٍّ هو الاضطِرارُ [290] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/115)، ((تفسير ابن كثير)) (3/352-354). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- المَيتةُ حُرِّمَت لصِفتِها، وهيَ اشتِمالُها على الفَضَلاتِ المُستَقذَرةِ، فلا تُباحُ إلَّا بسَبَبٍ مُبيحٍ، وهو الاضطِرارُ ونَحوُه مِنَ الأسبابِ، وكذلك الخَمرُ حُرِّم لصِفتِه، وهو الإسكارُ، فلا يُباحُ إلَّا بسَبَبٍ مُبيحٍ، وهو الغُصَّةُ أوِ الاضطِرارُ ونَحوُهما [291] يُنظر: ((الفروق)) (3/96)، ((الذخيرة)) (4/108) كلاهما للقرافي. .
2- البُرُّ ولُحومُ الأنعامِ وغَيرُ ذلك مِنَ المُباحاتِ مِنَ المَآكِلِ والمَلابِسِ والمَساكِنِ التي أُبيحَت لصِفاتِها، وهيَ ما اشتَمَلت عليه مِنَ المَنافِعِ والمَصالِحِ، فلا تُحَرَّمُ إلَّا بسَبَبٍ يُحَرِّمُ، كَأن تَكونَ مَسروقةً أو مَغصوبةً، أو كان العَقدُ فاسِدًا [292] يُنظر: ((الفروق)) (3/96)، ((الذخيرة)) (4/108) كلاهما للقرافي. .
3- حِلُّ أكلِ طَعامٍ حَلالٍ مَحضٍ حَملَه ظالِمٌ -ولا سيَّما الطَّعامِ الذي نَدَبَ الشَّرعُ إليه، كَطَعامِ الولائِمِ- لأنَّ ما كان حَلالًا بوصفِه وسَبَبِه فلا وجهَ لاجتِنابِه إلَّا بالوَسواسِ والأوهامِ التي لا التِفاتَ للشَّرعِ إلى مِثلِها [293] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/ 234). . فهو هنا مُباحٌ؛ لأنَّ حَملَ الظَّالمِ له لا يَستَلزِمُ كَونَه مُكتَسَبًا بسَبَبٍ حَرامٍ [294] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/ 234)، ((معلمة زايد)) (9/ 527). .

انظر أيضا: