موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّاني: استِعمالُ النَّاسِ حُجَّةٌ يَجِبُ العَمَلُ بها


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "استِعمالُ النَّاسِ حُجَّةٌ يَجِبُ العَمَلُ بها" [1252] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/252)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/169)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (2/26)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 20)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 223)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 57)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/450). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ وَضعَ اليَدِ على شَيءٍ والتَّصَرُّفَ فيه دَليلٌ على المَلكِ ظاهرًا، واستِعمالُ النَّاسِ إن كان عامًّا يُعَدُّ حُجَّةً في حَقِّ العُمومِ، وإن كان خاصًّا ببَلدةٍ مَثَلًا لا يَكونُ حُجَّةً، خِلافًا لمَشايِخِ بَلخٍ مِنَ الحَنَفيَّةِ؛ فإنَّهم يَرَونَه حُجَّةً في تلك البَلدةِ، ويَكونُ حينَئِذٍ مِنَ العُرفِ الخاصِّ، فيَثبُتُ به حُكمٌ خاصٌّ، واعتِبارُ الإجماعِ العُموميِّ الشَّرعيِّ حُجَّةً يُعمَلُ بها إنَّما هو لاستِحالةِ تَواطُؤِ ذلك الجَمعِ على الكَذِبِ والضَّلالِ. والعُرفُ والعادةُ في استِعمالِ النَّاسِ يَكونُ حُجَّةً إذا لم يَكُنْ مُخالفًا لنَصٍّ شَرعيٍّ أو شَرطٍ لأحَدِ المُتَعاقِدين [1253] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/46)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 292)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/336)، ((فقه النوازل للأقليات)) لمحمد يسري (1/606). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ استِعمالَ النَّاسِ نَوعٌ مِنَ العاداتِ الجاريةِ، فيَكونُ حُجَّةً عِندَ النِّزاعِ؛ لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لو أُهدي شَخصٌ شَيئًا كالتُّفَّاحِ مَثَلًا في طَبَقٍ، يَجِبُ رَدُّ الطَّبَقِ [1254] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/46). .
2- لوِ استَأجَرَ شَخصٌ عامِلًا ليَعمَلَ له في بُستانِه يَوميًّا، فتَعيينُ وَقتِ العَمَلِ مِنَ اليَومِ عائِدٌ إلى العُرفِ والعادةِ في تلك البَلدةِ. ولوِ استَأجَرَ أجيرًا يَعمَلُ له مُدَّةً مُعَيَّنةً حُمِل على ما جَرَتِ العادةُ بالعَمَلِ فيه مِنَ الزَّمانِ دونَ غَيرِه، إلَّا إذا نَصَّ في العَقدِ على زَمَنٍ مَخصوصٍ [1255] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/46)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 294)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/322). .
3- عادةُ النَّاسِ في إعطاءِ الأُجرةِ لأصحابِ المَكاتِبِ العَقاريَّةِ مِنَ السَّماسِرةِ والدَّلَّالينَ والسُّعاةِ، فقد جَرى العُرفُ والعادةُ في بَعضِ البلادِ على إلزامِ البائِعِ بالأُجرةِ، وفي بَعضِ البلادِ يَلتَزِمُ المُشتَري بدَفعِ الأُجرةِ، وفي بَعضِ البلادِ تُؤخَذُ مِنَ الطَّرَفينِ. وقد يَختَلفُ العُرفُ والعادةُ بحَسَبِ المَبيعِ في بلادٍ أُخرى. فيُعمَلُ بما جَرَت عليه عادةُ النَّاسِ [1256] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/322). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
فائِدةٌ [1257] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 293). :
استِعمالُ النَّاسِ غَيرُ المُخالفِ لنُصوصِ الفُقَهاءِ يُعَدُّ حُجَّةً، لكِن قد يُعتَبَرُ استِعمالُ النَّاسِ المُخالِفُ لنُصوصِ الفُقَهاءِ إذا كانت هذه النُّصوصُ مَبنيَّةً على العُرفِ أو على ضَربٍ مِنَ الاجتِهادِ والرَّأيِ، فبتَبَدُّلِ العُرف لا مانِعَ مِن تَبَدُّلِ الحُكمِ إذا كان الاستِمرارُ على الحُكمِ السَّابقِ فيه ضَرَرٌ ومَشَقَّةٌ تُصيبُ العِبادَ.
ومِن ذلك: عَدَمُ الاكتِفاءِ بظاهرِ العَدالةِ في الشَّهادةِ، فعلى الحاكِمِ أن يَتَحَقَّقَ مِن عَدالةِ الشُّهودِ مَعَ أنَّ ذلك مُخالِفٌ لِما نَصَّ عليه أبو حَنيفةَ مِنَ الاكتِفاءِ بظاهرِ العَدالةِ، وبناءً على ما كان في زَمَنِه مِن غَلبةِ العَدالةِ على النَّاسِ، ولكِنَّ أبا يوسُف ومُحَمَّدًا نَصَّا على أنَّه لا يَكتَفي بذلك الظَّاهرِ لفُشوِّ الكَذِبِ في زَمانِهما، وعلى ذلك فُقَهاءُ مُختَلِفِ المَذاهِبِ.
ومِن ذلك أيضًا: تَضمينُ السَّاعي (أي: النَّمَّامِ) بالفسادِ بَينَ النَّاسِ ما أُتلِفَ بسَبَبِ سعايَتِه، مَعَ مُخالفةِ ذلك لقاعِدةِ: (الضَّمانُ على المُباشِرِ دونَ المُتَسَبِّبِ)، ولكِن لكَثرةِ السُّعاةِ المَفسَدينَ أفتَوا بتَضمينِه.

انظر أيضا: