موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّامِنُ: الحاجةُ تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الضَّرورةِ عامَّةً كانت أو خاصَّةً


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الحاجةُ تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الضَّرورةِ عامَّةً كانت أو خاصَّةً" [805] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 88)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 78)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 19). ، وصيغةِ: "اعتِبارُ الحاجةِ في تَجويزِ المَمنوعِ كاعتِبارِ الضَّرورةِ في تَحليلِ المُحرَّمِ" [806] يُنظر: ((القبس)) لابن العربي (ص: 790). ، وصيغةِ: "الحاجةُ في حَقِّ النَّاسِ كافَّةً تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الضَّرورةِ في حَقِّ الواحِدِ المضطَّرِ" [807] يُنظر: ((غياث الأمم)) لأبي المعالي الجويني (ص: 478- 479). ، وصيغةِ: "الحاجةُ العامَّةُ تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الضَّرورةِ الخاصَّةِ في حَقِّ آحادِ النَّاسِ" [808] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/24). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
إذا نَزَلت بالنَّاسِ حاجةٌ يُتَوقَّعُ مِنها فسادُ البِنيةِ، أو ضَعفٌ يَصُدُّ عنِ التَّصَرُّفِ والتَّقَلُّبِ في أُمورِ المَعاشِ أو نَحوِ ذلك مِمَّا هو فوقَ التَّرَفُّهِ ودونَ الضَّرورةِ، واحتاجوا إلى التَّيسيرِ والتَّسهيلِ؛ فإنَّ الشَّريعةَ تُراعي هذه الحاجةَ، فتُرَخِّصُ لها مِنَ الأحكامِ كَما تُرَخِّصُ للضَّرورةِ، سَواءٌ كانت هذه الحاجةُ عامَّةً لجَميعِ النَّاسِ أو خاصَّةً بفردٍ واحِدٍ باعتبارِ النَّظَرِ إليه بوَصْفِهِ لا بِشَخْصِهِ، ومِن ذلك مَشروعيَّةُ الإجارةِ، والجَعالةِ، والحَوالةِ، ونَحوِها، فجُوِّزَت على خِلافِ القياسِ لِما في الأولى مِن وُرودِ العَقدِ على مَنافِعَ مَعدومةٍ، وفي الثَّانيةِ مِنَ الجَهالةِ، وفي الثَّالثةِ مِن بَيعِ الدَّينِ بالدَّينِ، وإنَّما جُوِّزَت لعُمومِ الحاجةِ إليها، والحاجةُ إذا عَمَّت كانت كالضَّرورةِ [809] يُنظر: ((غياث الأمم)) للجويني (ص: 478-481)، ((المنثور)) للزركشي (2/25،24)، ((القواعد)) للحصني (1/327)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 88)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 78)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/293)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 209). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدةِ: (المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- العَمَليَّاتُ التَّجميليَّةُ للعُيوبِ والتَّشَوُّهاتِ النَّاشِئةِ عنِ الحَوادِثِ والحُروقِ، فهذا النَّوعُ مِنَ الجِراحةِ الطِّبِّيَّةِ وإن كان مُسَمَّاه يَدُلُّ على تَعَلُّقِه بالتَّحسينِ والتَّجميلِ إلَّا أنَّه تَوفَّرَت فيه الدَّوافِعُ الموجِبةُ للتَّرخيصِ بفِعلِه؛ لحاجةِ المَريضِ إلى ذلك؛ لدَفعِ الضَّرَرِ الحِسِّيِّ والمَعنَويِّ [810] يُنظر: ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 186،185). .
2- جَوازُ النَّظَرِ إلى وَجهِ المَرأةِ الأجنَبيَّةِ وكَفَّيها إذا كان ذلك لخِطبَتِها؛ للحاجةِ إلى ذلك [811] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 490)، ((القواعد)) للحصني (1/ 328). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
قال أبو المَعالي الجُوَينيُّ: (الحاجةُ لَفظةٌ مُبهَمةٌ لا يُضبَطُ فيها قَولٌ) [812] ((غياث الأمم)) (ص: 479). .
وقال الزَّركَشيُّ: (الحاجةُ العامَّةُ تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الضَّرورةِ الخاصَّةِ في حَقِّ آحادِ النَّاسِ، كَرَّرَها إمامُ الحَرَمَينِ في مَواضِعَ مِنَ البُرهانِ، وكَذا في النِّهايةِ. فقال في بابِ الكِتابةِ: إنَّ عَقدَ الكِتابةِ والجَعالةِ والإجارةِ ونَحوِها جَرَت على حاجاتٍ (خاصَّةٍ) (تَكادُ) تَعُمُّ، والحاجةُ إذا عَمَّت (كانت) كالضَّرورةِ، فتُغَلَّبُ فيها الضَّرورةُ الحَقيقيَّةُ) [813] ((المنثور)) (2/24).          .
ويُفهَمُ من ذلك أنَّ حاجةَ الفَردِ إنَّما تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الضَّرورةِ بالنَّظَرِ إلى وصفِه لا إلى شَخصِه؛ إذ هذا المَعنى الذي يَصدُقُ عليه العُمومُ، والشَّرعُ مُتَّصِفٌ بصِفةِ العُمومِ، وهو مَعنى قَولِ الفُقَهاءِ: (خاصَّة) أي: تَخُصُّ الفَردَ بالصُّورةِ التي تَجري مَجرى العُمومِ، وذلك بالوصفِ لا بالشَّخصِ. فمَثَلًا: الحَيضُ خاصٌّ بالمَرأةِ لكنَّه عامٌّ في طائِفةِ النِّساءِ. ثُمَّ إنَّ حاجةَ الشَّخصِ لا تَقوى على إباحةِ المُحَرَّمِ تَحريمَ المَقاصِدِ، كالحاجةِ العامَّةِ المُنَزَّلةِ مَنزِلةَ الضَّرورةِ، مِثلُ أكلِ المَيتةِ، بَل حَسبُها أن تُبيحَ المُحَرَّمَ تَحريمَ الوسائِلِ، مِثلَ لُبسِ الحَريرِ. فيَكونُ قَولُهُم: الحاجةُ الخاصَّةُ تُبيحُ المَحظورَ - كَما قال الزَّركَشيُّ- يَصدُقُ على نَوعَيِ التَّحريمِ: المَقصودِ والوسيلةِ، بهذا الاعتِبارِ.

انظر أيضا: