المَطلبُ الخامِسُ والثَّلاثونَ: إذا تَعارَضَ الأصلُ والظَّاهرُ، فالبناءُ على الظَّاهرِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ: "الحُكمُ يُبنى على الظَّاهرِ"
[666] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/501)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/179). ، وصيغة: "الحُكمُ يُبنى على الظَّاهرِ فيما يَتَعَذَّرُ الوُقوفُ على حَقيقةِ الحالِ فيه"
[667] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 205). ، وصيغة: "البناءُ على الظَّاهِرِ واجِبٌ حتَّى يَتَبَيَّنَ خِلافُه"
[668] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/110)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/216)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (2/41)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/146)، ((فتح باب العناية)) لصدر الشريعة (1/397)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/130). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ بناءَ الأحكامِ على الرَّاجِحِ مِنَ المَعاني أوِ الأُمورِ الظَّاهرةِ واجِبٌ لا يَجوزُ العُدولُ عنه والبناءُ على خِلافِه، إلَّا إذا رُجِّحَ جانِبٌ آخَرُ بقَرينةٍ أو بَيِّنةٍ
[669] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (2/80). ، قال السَّرَخسيُّ: (البناءُ على الظَّاهِرِ واجِبٌ، وعلى مَن يَدَّعي خِلافَ الظَّاهرِ إقامةُ البَيِّنةِ)
[670] ((المبسوط)) (17/19). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الأخذَ بالظَّاهرِ -عِندَ تَعَذُّرِ الوُقوفِ على الأصلِ- بمَنزِلةِ اليَقينِ، فلا يَجوزُ العُدولُ عنه إلَّا بدَليلٍ؛ ولذلك قال السَّرَخسيُّ: (البناءُ على الظَّاهِرِ فيما يَتَعَذَّرُ الوُقوفُ فيه على الحَقيقةِ وغالِبِ الرَّأيِ: بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما لا يُمكِنُ إثباتُه بحُجَّةٍ أُخرى)
[671] ((شرح السير الكبير)) (ص: 1058). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والأَثرِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:- قَولُ اللهِ تعالى:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 61-62] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا أمَرَ في الآيةِ الأولى بالصُّلحِ ذَكَر في الآيةِ التي بَعدَها حُكمًا مِن أحكامِ الصُّلحِ، وهو أنَّهم إن صالحوا بنيَّةِ المُخادَعةِ في الباطِنِ وجَبَ قَبولُ ذلك الصُّلحِ؛ لأنَّ الحُكمَ يُبنى على الظَّاهِرِ؛ لأنَّ الصُّلحَ لا يَكونُ أقوى حالًا مِنَ الإيمانِ، فلمَّا بَنَينا أمرَ الإيمانِ على الظَّاهرِ لا على الباطِنِ، فهاهنا أَولى.
فإن قيل: أليسَ اللهُ تعالى قال:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ [الأنفال: 58] أي: أظهِرْ نَقضَ ذلك العَهدِ، وهذا يُناقِضُ ما ذَكَرَه في هذه الآيةِ؟ فالجَوابُ: قَولُه:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ مَحمولٌ على ما إذا تَأكَّدَ ذلك الخَوفُ بأماراتٍ قَويَّةٍ دالَّةٍ عليها، وتُحمَلُ هذه المُخادَعةُ على ما إذا حَصَل في قُلوبِهم نَوعُ نِفاقٍ وتَزويرٍ، إلَّا أنَّه لم تَظهَرْ أماراتٌ تَدُلُّ على كَونِهم قاصِدينَ للشَّرِّ وإثارةِ الفِتنةِ، بَل كان الظَّاهِرُ مِن أحوالهمُ الثَّباتَ على المَسألةِ وتَركَ المُنازَعةِ
[672] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/501). ويُنظر أيضًا: ((تفسير النيسابوري)) (3/414)، ((التفسير المنير)) لوهبة الزحيلي (10/63). .
- وقال اللهُ تعالى عن نوحٍ عليه السَّلامُ:
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء: 112-113] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَ نوحٍ عليه السَّلامُ:
وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: في الباطِنِ، وقَولَه:
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي مَعناه: وهو يُجازيهم على حَقيقةِ أمرِهم، وإنَّما عليَّ البناءُ على الظَّاهرِ، وهم في الظَّاهرِ مُؤمِنونَ مُصَدِّقونَ
[673] يُنظر: ((التيسير في التفسير)) للنسفي (11/289). .
2- مِنَ الأَثرِ:عن يَحيى بنِ عبيدٍ، قال: سَألتُ ابنَ عبَّاسٍ عن ماءِ الحَمَّامِ، فقال:
((الماءُ لا يَجنُبُ)) [674] أخرجه ابنُ أبي شيبة (1156)، والبيهقي (1278). صحَّحه ابنُ رجب في ((فتح الباري)) (1/284). .
وَجهُ الدَّلالةِ:فيه جَوازُ البناءِ على الظَّاهرِ، فالأصلُ في الماءِ البَقاءُ على الطَّهارةِ
[675] يُنظر: ((شرح الإلمام)) لابن دقيق العيد (1/198). وينظر أيضًا: ((النفح الشذي)) لابن سيد الناس (2/99). 3- مِنَ الإجماعِوقد نُقِل الإجماعُ على أنَّ أحكامَ الدُّنيا تُبنى على الظَّاهرِ، ومِمَّن نَقَله: ابنُ عَبدِ البَرِّ
[676] قال: (أجمَعوا أنَّ أحكامَ الدُّنيا على الظَّاهِرِ، وإلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ السَّرائِرُ). ((الاستذكار)) (2/359)، ((التمهيد)) (7/32). ، وابنُ القَطَّانِ
[677] قال: (أجمَعوا أنَّ أحكامَ الدُّنيا على الظَّاهِرِ، وإلى اللهِ عِلمُ السَّرائِرِ). ((الإقناع)) (2/310). ، وابنُ المُلقِّنِ
[678] قال: (قد أجمَعوا أنَّ أحكامَ الدُّنيا على الظَّاهِرِ، وإلى اللهِ تعالى السَّرائِرُ). ((التوضيح)) (31/520). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ؛ مِنها:
1- إذا كان الإمامُ على جَنابةٍ وصَلَّى بالنَّاسِ، فالذي يُقطَعُ به أنَّه لا قَضاءَ على المَأمومِ؛ لأنَّه لا يَجِبُ على المُقتَدي البَحثُ عن طَهارةِ إمامِه، بَل إنَّما كُلِّف البناءَ على الظَّاهِرِ، فلا يُنسَبُ إلى التَّقصيرِ في طَلبِ مَأمورٍ به
[679] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (2/290). .
2- لا فرقَ في الأهليَّةِ لإيقاعِ الطَّلاقِ بَينَ الزَّوجِ الصَّحيحِ والزَّوجِ المَريضِ؛ لأنَّ المَرَضَ ما دامَ لم يُؤَثِّرْ في العَقلِ لا يُعدِمُ الأهليَّةَ ولا يَنقُصُها. ولا بَينَ الرَّشيدِ والمَحجورِ عليه للسَّفَهِ، ولا بَينَ الجادِّ والهازِلِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هؤلاء عاقِلٌ بالغٌ مُختارٌ يَعي ما يَقولُ، والسَّفَهُ والهَزلُ والغَفلةُ لا يُعدِمُ الأهليَّةَ ولا يَنقُصُها، ولأنَّ الوُقوفَ على الحَقيقةِ مُتَعَذِّرٌ، فرُبَّما لم يَكُنْ هازِلًا ولا غافِلًا، وبَعدَ أن وقَعَ الطَّلاقُ ادَّعى ذلك، والقَضاءُ يُبنى على الظَّاهِرِ
[680] يُنظر: ((أحكام الأحوال الشخصية)) لعبد الوهاب خلاف (ص: 135). .