المَطلبُ الرَّابِعُ والثَّلاثونَ: الشَّكُّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الشَّكُّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها"
[657] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/224)، ((الفروع)) لابن مفلح (1/99)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/80)، ((مطالب أولي النهي)) للرحيباني (1/50)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/206). ، وصيغةِ: "الشَّكُّ الطَّارِئُ بَعدَ الفراغِ مِنَ العِبادةِ لا تَأثيرَ له"
[658] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (1/143). ، وصيغةِ: "الشَّكُّ الطَّارِئُ بَعدَ الفراغِ لا حُكمَ له"
[659] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (1/382). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِإذ شَكَّ المُكَلَّفُ في وُجودِ خَللٍ في العِبادةِ بَعدَ ما فعَلَها، وكان خَفاءُ الخَلَلِ بَعدَ بَذلِ الجُهدِ في استِكشافِه، فهيَ مُجزِئةٌ، ولا تَلزَمُ إعادَتُها؛ لأنَّ الشَّكَّ الطَّارِئَ بَعدَ العِبادةِ لا يَقدَحُ في العِبادةِ، ولا يوجِبُ الإعادةَ
[660] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (2/254) و(4/29)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبدالكريم اللاحم (ص: 29). .
واعتِبارُ الشَّكِّ الطَّارِئِ بَعدَ العِبادةِ مِن شَأنِه أن يُضَيِّقَ العِباداتِ على المُكَلَّفينَ؛ قال البَغَويُّ: (لو شَكَّ بَعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ أنَّه صَلَّى ثَلاثًا أو أربَعًا، أو شَكَّ في رُكنٍ أنَّه هَل أتى به أم لا، لا يَلزَمُه شَيءٌ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه أدَّاها على التَّمامِ، ولوِ اعتُبرَ الشَّكُّ الطَّارِئُ بَعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ لضاقَ الأمرُ على النَّاسِ)
[661] ((التهذيب)) (2/184). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المُكَلَّفَ قد أوقَعَ العِبادةَ بتَمامِ شُروطِها وأركانِها بيَقينٍ، والشَّكُّ الآتي بَعدَ اليَقينِ لا يُؤَثِّرُ؛ لأنَّه لا يَقوى على إزالةِ اليَقينِ المُتَقدِّمِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بنَفسِ أدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ؛ مِنها:
1- إن عَلِمَ نَجاسةَ الماءِ الذي تَوضَّأ مِنه، وشَكَّ: هَل كان وضوؤه قَبلَ نَجاسةِ الماءِ أو بَعدَها: لم تَجِبْ عليه الإعادةُ؛ لأنَّ الأصلَ الطَّهارةُ، ولعَدَمِ عِلمِه بأنَّه صَلَّى بنَجاسةٍ، فلا يَلزَمُه أن يُعيدَ إلَّا ما تَيَقَّنَه بماءٍ نَجِسٍ، وعلى هذا لا يَغسِلُ ثيابَه وآنيَتَه
[662] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (1/99)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (1/182)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/80). .
2- إذا صَلَّى الإمامُ بقَومٍ، واستَيقَنَ واحِدٌ مِنهم أنَّ الإمامَ صَلَّى أربَعًا، واستَيقَنَ واحِدٌ مِنهم أنَّه صَلَّى ثَلاثًا، والإمامُ والقَومُ في شَكٍّ؛ فليسَ على الإمامِ والقَومِ شَيءٌ؛ لأنَّ هذا شَكٌّ بَعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ، فلا يُعتَبَرُ، وعلى الذي استَيقَنَ بالنُّقصانِ الإعادةُ؛ لأنَّ تَعيينَه لا يَبطُلُ بتَعيينِ غَيرِه
[663] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (1/528). .
3- إذا تَيَقَّنَ الحَدَثَ وشَكَّ في الطَّهارةِ وهو في الطَّوافِ، لم يَصِحَّ طَوافُه ذلك؛ لأنَّه شَكَّ في شَرطِ العِبادةِ قَبلَ الفراغِ مِنها، فأشبَهَ ما لو شَكَّ في الطَّهارةِ في الصَّلاةِ وهو فيها. وإن شَكَّ بَعدَ الفراغِ مِنه لم يَلزَمْه شَيءٌ؛ لأنَّ الشَّكَّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها. وإن شَكَّ في عَدَدِ الطَّوافِ بَنى على اليَقينِ؛ لأنَّها عِبادةٌ، فمَتى شَكَّ فيها وهو فيها بَنى على اليَقينِ، كالصَّلاةِ. وإن شَكَّ في ذلك بَعدَ فراغِه مِنَ الطَّوافِ لم يَلتَفِتْ إليه، كَما لو شَكَّ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ بَعدَ فراغِ الصَّلاةِ
[664] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/224). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفائِدةٌ:لهذه القاعِدةِ عَلاقةٌ بقاعِدةِ تَعارُضِ الأصلِ والظَّاهرِ؛ ولذلك بَناها ابنُ رَجَبٍ على تَقديمِ الظَّاهرِ عِندَ تَعارُضِه مَعَ الأصلِ، فقال: (إذا شَكَّ بَعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ أو غَيرِها مِنَ العِباداتِ في تَركِ رُكنٍ مِنها؛ فإنَّه لا يَلتَفِتُ إلى الشَّكِّ، وإن كان الأصلُ عَدَمَ الإتيانِ به وعَدَمَ بَراءةِ الذِّمَّةِ، لكِنَّ الظَّاهرَ مِن أفعالِ المُكَلَّفينَ للعِباداتِ أن تَقَعَ على وَجهِ الكَمالِ؛ فرُجِّحَ هذا الظَّاهِرُ على الأصلِ)
[665] ((القواعد)) (3/135). .