المَطلبُ السَّابعُ والعِشرونَ: إذا تَعارَضَتِ المَصالِحُ قُدِّمَ أَولاها وأقواها
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "إذا تَعارَضَتِ المَصالِحُ قُدِّمَ أَولاها وأقواها"
[587] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/22)، ((العدة)) لابن العطار (2/873)، ((رياض الأفهام)) للفاكهاني (3/436). ، وصيغةِ: "إذا تَعارَضَتِ المَصالِحُ والمُهمَّاتُ بُدِئَ بأهَمِّها"
[588] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/121). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِرُبَّما تَتَعارَضُ المَصالِحُ فيَقتَضي الأمرُ التَّرجيحَ، فإذا تَعارَضَتِ المَصالِحُ تَرَجَّحَتِ العُظمى، فتَقديمُ أرجَحِ المَصلحَتَينِ هو الطَّريقُ الشَّرعيُّ، وهو ما أثنى اللَّهُ به على المُؤمِنينَ عِندَ التِقائِهم بالمُشرِكينَ في الحُدَيبيةِ؛ إذ قَبِلوا تَأجيلَ العُمرةِ إلى العامِ القابِلِ، وأزالوا البَسمَلةَ مِنَ الصَّحيفةِ، وغَيَّروا وَصفَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذِكرِ اسمِه؛ تَرجيحًا لِما في ذلك مِن مَصلحةِ الأمنِ
[589] يُنظر: ((مقاصد الشريعة)) لابن عاشور (1/706). .
قال الطُّوفيُّ: (مَن حَصَّل مَصلحةً مَرجوحةً، مَعَ تَفويتِ مَصلحةٍ راجِحةٍ جِدًّا، أو دَفعَ مَفسَدةً يَسيرةً، والتَزَمَ أشَدَّ مِنها؛ عُدَّ عِندَ العُقَلاءِ سَفيهًا، يَحكُمونَ عليه بذلك بَديهةً)
[590] ((درء القول القبيح)) (ص: 334). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّه لا يَجوزُ تَركُ المَصلحةِ المُتَيَقَّنةِ مِن أجلِ المَصلحةِ الأقَلِّ مِنها في الرُّتبةِ، سَواءٌ كانت مَظنونةً أو مَوهومةً.
مَراتِبُ المَصالحِ:المَصالحُ ليسَت في مَرتَبةٍ واحِدةٍ؛ فقد تَكونُ يَقينيَّةً، وقد تَكونُ مَظنونةً، وقد تَكونُ مَرجوحةً مُتَوهَّمةً، فالحُكمُ إذا شُرِعَ للمُناسَبةِ فلا بُدَّ أن يَكونَ مُحَصِّلًا للمَصلحةِ.
وبَيانُ مَراتِبِها على النَّحوِ التَّالي:
1- ما يَكونُ مُحَصِّلًا للمَصلحةِ يَقينًا كالحُكمِ بصِحَّةِ البَيعِ لحُصولِ المِلكِ وصِحَّةِ التَّصَرُّفِ.
2- ما يَكونُ مُحَصِّلًا للمَصلَحةِ ظَنًّا، كَشَرعيَّةِ وُجوبِ القِصاصِ بالقَتلِ العَمدِ العُدوانِ لإبقاءِ النُّفوسِ المَعصومةِ، وصيانةً لها عنِ التَّلفِ؛ فإنَّ ذلك ليسَ مَقطوعَ الحُصولِ، لكِن يَغلبُ على الظَّنِّ حُصولُه؛ إذِ الظَّاهرُ مِن حالِ العاقِلِ أنَّه لا يُقدِمُ على القَتلِ إذا عَلِمَ أنَّه يُقتَلُ بسَبَبِه.
3- ما يَستَوي فيه الأمرانِ قيل: هو كَشَرعيَّةِ وُجوبِ الحَدِّ على شارِبِ الخَمرِ؛ فإنَّه مُحَصِّلٌ لمَصلحةِ حِفظِ العَقلِ، لكِنَّ كَونَه كذلك يَستَوي فيه الأمرانِ، أي: الوُجودُ والعَدَمُ؛ لأنَّ كَثرةَ المُمتَنِعينَ عنه مُقاوِمةٌ لكَثرةِ المُقدِمينَ عليه مِن غَيرِ تَرجيحٍ وغَلبةٍ لأحَدِ الفريقَينِ في العادةِ. وفي ذلك نَظَرٌ، فلو سَلَّمنا بحُصولِ ذلك فإنَّما هو للتَّهاوُنِ والتَّسامُحِ في إقامةِ الحَدِّ، فأمَّا مَعَ إقامَتِه فلا، وما يُعتَبَرُ مُفضيًا إلى المَقصودِ أو لا يَكونُ مُفضيًا إليه إنَّما هو بناءً على تَقديرِ رِعايةِ الحُكمِ والعَمَلِ على تَطبيقِه، فأمَّا بمُجَرَّدِ تَشريعِ الحُكمِ مَعَ قَطعِ النَّظَرِ عن ذلك فلا.
3- ما يَكونُ حُصولُ المَقصودِ مِنه مَرجوحًا، كَشَرعيَّةِ نِكاحِ الآيِسةِ لمَصلحةِ التَّوالُدِ والتَّناسُلِ؛ فإنَّه وإن كان مُمكِنًا عَقلًا لكِنَّه بَعيدٌ على مَجرى العادةِ، فكان مَرجوحًا.
والأوَّلُ هو أقوى المَراتِبِ، ثُمَّ الثَّاني، ثُمَّ الثَّالثُ، ثُمَّ الرَّابعُ
[591] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3292). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((والذي نَفسي بيَدِه لولا أنَّ رِجالًا مِنَ المُؤمِنينَ لا تَطيبُ أنفُسُهم أن يَتَخَلَّفوا عنِّي، ولا أجِدُ ما أحمِلُهم عليه؛ ما تَخَلَّفتُ عن سَريَّةٍ تَغزو في سَبيلِ اللهِ. والذي نَفسي بيَدِه لوَدِدتُ أنِّي أُقتَلُ في سَبيلِ اللهِ ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أُقتَلُ ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أُقتَلُ ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أُقتَلُ )) [592] أخرجه البخاري (2797) واللفظ له، ومسلم (1876). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يُبَيِّنُ الحَديثُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الشَّفقةِ على المُسلمينَ والرَّأفةِ بهم، وأنَّه كان يَترُكُ بَعضَ ما يَختارُه؛ للرِّفقِ بالمُسلمينَ، وأنَّه إذا تَعارَضَتِ المَصالِحُ يُؤثِرُ أهَمّها
[593] يُنظر: ((شرح المشكاة)) للطيبي (8/2626)، ((طرح التثريب)) للعراقي (7/203). .
2- مِنَ القَواعِدِ: يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بنَفسِ أدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّه لا تُترَكُ المُصلحةُ المُتَيَقَّنةُ لمَصلحةٍ أقَلَّ مِنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- أفضَليَّةُ الإبرادِ بالظُّهرِ مَعَ ما فيه مِن تَفويتِ المُبادَرةِ إلى الصَّلاةِ؛ فإنَّه مِن بابِ تَقديمِ مَصلحةٍ راجِحةٍ على مَصلَحةٍ مَرجوحةٍ؛ لأنَّ المَشيَ إلى الجَماعاتِ في شِدَّةِ الحَرِّ يُشَوِّشُ الخُشوعَ الذي هو أفضَلُ أوصافِ الصَّلاةِ، فقُدِّمَ الخُشوعُ -الذي هو مِن أفضَلِ أوصافِ الصَّلاةِ- على المُبادَرةِ التي لا تُدانيه في الرُّتبةِ؛ ولهذا المَعنى أمَرَ بالمَشيِ إلى الجَماعةِ بالسَّكينةِ والوقارِ مَعَ ما فيه مِن تَفويتِ النِّداءِ وتَكميلِ الاقتِداءِ بالإمامِ؛ لأنَّه لو أسرَعَ لانزَعَجَ وذَهَبَ خُشوعُه؛ فقدَّمَ الشَّرعُ رِعايةَ الخُشوعِ على المُبادَرةِ وعلى الاقتِداءِ في جَميعِ الصَّلواتِ، وكذلك تُؤَخَّرُ الصَّلاةُ بكُلِّ ما يُشَوِّشُ الخُشوعَ، كإفراطِ الظَّمَأِ والجوعِ، وكذلك يُؤَخِّرُها الحاقِنُ والحاقِبُ
[594] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/38). .
2- جَوازُ الانتِقالِ باللَّقيطِ مِنَ الباديةِ إلى الحاضِرةِ، فإذا كان اللَّقيطُ في البَدوِ، وأرادَ المُلتَقِطُ أن يَخرُجَ به إلى أهلِ الحَضَرِ، نُظِر: فإن كان في مَهلَكةٍ وجَبَ نَقلُه، وإن لم يَكُنْ في مَهلَكةٍ جازَ نَقلُه، ولا يَجوزُ انتِزاعُه مِنه بسَبَبِ ذلك. وما يُتَوقَّعُ مِنِ انقِطاعِ ظُهورِ نَسَبِه في نَقلِه مِنَ الباديةِ حَيثُ نُبِذَ لا يُعادِلُ مَصلحةَ نَقلِه إلى المَدينةِ حَيثُ الأمنُ، ورَغَدُ العَيشِ، وتَعَلُّمُ الدِّينِ والصَّنعةِ، والرِّعايةُ الصِّحِّيَّةُ، فلا تُترَكُ مَصلَحةٌ مُتَيَقَّنةٌ لمَصلحةٍ مُتَوهَّمةٍ
[595] يُنظر: ((المعاملات المالية أصالة ومعاصرة)) للدبيان (20/275). .