موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: الأصلُ عَدَمُ المِلكِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ عَدَمُ المِلكِ" [493] يُنظر: ((التذكرة)) لابن عقيل (ص: 172)، ((البيان)) للعمراني (4/559)، ((الكافي)) لابن قدامة (4/184)، ((المجموع)) للنووي (9/140)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/234)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/23)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2134). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
أنَّ الأصلَ عَدَمُ المِلكِ، ولا يُترَكُ هذا الأصلُ إلَّا بحُجَّةٍ، فلا يَثبُتُ إلَّا في المُحَقَّقِ، وهو الدَّارُ مَثَلًا؛ لِما تَحَقَّقناه مِن سَبَبِ المِلكِ فيها، كالشِّراءِ أوِ الميراثِ، وثُبوتِ يَدٍ خاصَّةٍ عليها دونَ ما سِوى ذلك [494] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (1/457)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (4/295). .
ولمَّا كان الأصلُ عَدَمَ المِلكِ فإنَّه لا يَثبُتُ لمَن يَدَّعيه بظاهرِ التَّصَرُّفِ؛ لأنَّه إنَّما تَدُلُّ اليَدُ والتَّصَرُّفُ على تَعيينِ المِلكِ مَعَ كَونِ الشَّيءِ مَملوكًا، فيَظهَرُ مِنِ اختِصاصِ الإنسانِ باليَدِ والتَّصَرُّفِ وعَدَمِ النَّكيرِ عليه تَعيينُه مِن بَينِ النَّاسِ [495] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/22). .
وتَطبيقُ هذه القاعِدةِ إنَّما يَكونُ فيما لم يُعلَمْ أنَّه مَملوكٌ لأحَدٍ، وهذا بخِلافِ ما عُلِمَ أنَّه قد كان مَملوكًا لإنسانٍ فذَهَبَ عنه، فإنَّه يَجِبُ أن يُرَدَّ إلى صاحِبِه، وإنَّما يُعلَمُ هذا بالخَبَرِ، أو بوُجودِ ما يَدُلُّ على المِلكِ فيه [496] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/319)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (7/109). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفريعِها عنها أنَّ عَدَمَ المِلكِ هو الأصلُ المُتَيَقَّنُ الذي خُلقَ الإنسانُ عليه، والمِلكُ عارِضٌ حادِثٌ، فلا تَثبُتُ المِلكيَّةُ إلَّا بأسبابِها الظَّاهرةِ كالشِّراءِ أوِ الميراثِ أوِ الهبةِ أوِ الوصيَّةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- إن وجَدَ أحَدٌ عَنبرةً على ساحِلِ البَحرِ فهيَ له؛ لأنَّه يُمكِنُ أن يَكونَ البَحرُ ألقاها، والأصلُ عَدَمُ المِلكِ فيها، فكانت مُباحةً لآخِذِها، كالصَّيدِ [497] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/318). .
2- ذَكَرَ بَعضُ فُقَهاءِ الحَنابلةِ مِثالًا على الذِّمِّيِّ إذا كانت له تِجارةٌ فإنَّه يُؤخَذُ مِنه نِصفُ عُشرِ مالِه، فإنِ ادَّعى أنَّ عليه دَينًا بقدرِ مالِه أو يُنقِصُ مالَه عنِ النِّصابِ، فلا يُقبَلُ كَلامُه إلَّا ببَيِّنةٍ؛ لأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّينِ، والدَّينُ إذا ثَبَتَ يَمنَعُ أخذَ نِصفِ العُشرِ مِن مالِه، وإن كانت مَعَه جاريةٌ فقال: هيَ أُختي أوِ ابنَتي، فقيل: يُقبَلُ قَولُه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ المِلكِ، أي: الأصلُ أنَّها ليسَت مِمَّا مَلكَت يَمينُه، فيُقبَلُ قَولُه ويُصَدَّقُ في ذلك دونَ بَيِّنةٍ، ولا يُؤخَذُ مِنه نِصفُ عُشرِ قيمَتِها [498] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/184)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/234)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (7/ 276). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
فوائِدُ:
1- يَنتُجُ مِن هذه القاعِدةِ قاعِدةٌ أُخرى، وهيَ: (مَن سَبَقَ إلى مُباحٍ مَلَكه بأخذِهـ) كَصَيدٍ أو غَيرِه، وكَذا لو سَبَقَ إلى ما ضاعَ مِنَ النَّاسِ مِمَّا لا تَتبَعُه الهمَّةُ مَلَكَه بأخذِه، وهو أحَقُّ به، ولو كان أخَذَه للتِّجارةِ أوِ الحاجةِ، والمِلكُ مَقصورٌ فيه على القَدرِ المَأخوذِ، فإن سَبقَ إليه اثنانِ قُسِم بَينَهما؛ لأنَّهما اشتَرَكا في السَّبَبِ، فاشتَرَكا في المَملوكِ به، كَما لوِ ابتاعاه [499] يُنظر: ((عمدة الحازم)) (ص: 368)، ((الكافي)) (2/250) كلاهما لابن قدامة، ((الإقناع)) للحجاوي (2/391). .
2- عَدَمُ المِلكِ سَبَبٌ لبُطلانِ العُقودِ على العَينِ، كالرَّهنِ؛ فإنَّه يَبطُلُ بسَبَبِ بُطلانِ المِلكِ؛ لأنَّ وُجودَ المِلكِ سَبَبٌ لصِحَّةِ الرَّهنِ، كَما أنَّ عَدَمَ المِلكِ سَبَبٌ لبُطلانِ الرَّهنِ، ولأنَّ مَن مَلكَ شَيئًا مَلَكه بحُقوقِه، كالورَثةِ إذا مَلكوا الرَّهنَ مَلكوه بحُقوقِه مَرهونًا [500] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/110). .

انظر أيضا: