المَطلبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الأصلُ في الكَلامِ الحَقيقةُ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ في الكَلامِ الحَقيقةُ"
[423] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/341)، ((الفروق)) للقرافي (3/114)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/242)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/231)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/182)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 63)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 60)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 17). ، وصيغةِ: "الأصلُ في الاستِعمالِ الحَقيقةُ"
[424] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (12/6440)، ((العدة)) لأبي يعلى (4/1065)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 31)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/141)، ((الفروق)) (1/63)، ((الذخيرة)) (1/229) كلاهما للقرافي، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/596). . وصيغةِ: "الأصلُ في الإطلاقِ الحَقيقةُ"
[425] يُنظر: ((العدة)) للمقدسي (ص: 517)، ((الإحكام)) للآمدي (1/40)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/266)، ((شرح الإلمام)) لابن دقيق العيد (3/231)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/36)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/503). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالحَقيقةُ: هيَ استِعمالُ اللَّفظِ في المَعنى الذي وُضِعَ له، كقَولِك: (أسَدٌ) للوَحشِ المَعروفِ، و(فرَس) للدَّابَّةِ المَعلومةِ.
والمَجازُ: استِعمالُ اللَّفظِ في غَيرِ ما وُضِعَ له بشَرطِ أن يَكونَ بَينَ المَعنى الحَقيقيِّ والمَعنى المَجازيِّ عَلاقةٌ ومُناسَبةٌ، فكما أنَّ العَلاقةَ -التي هيَ المُناسَبةُ بَينَ المَعنى الحَقيقيِّ والمَعنى المُستَعمَلِ فيه ذلك اللَّفظُ مَجازًا- هيَ مِن مُقتَضَياتِ المَجازِ، فالقَرينةُ المانِعةُ مِن إرادةِ المَعنى الحَقيقيِّ شَرطٌ في صِحَّةِ المَجازِ أيضًا.
مَثَلًا: لو قال شَخصٌ: رَأيتُ أسَدًا في الحَمَّامِ يَغتَسِلُ، يُفهَمُ مِنه أنَّه رَأى رَجُلًا شُجاعًا في الحَمَّامِ يَغتَسِلُ، لا أنَّه رَأى الأسَدَ الحَقيقيَّ، وهو الوحشُ المَعروفُ؛ لأنَّ الحَمَّامَ قَرينةٌ مانِعةٌ مِن وُجودِ الأسَدِ الحَقيقيِّ فيه يَغتَسِلُ، وبَينَ الأسَدِ والرَّجُلِ الشُّجاعِ عَلاقةٌ ومُناسَبةٌ، وهيَ الجُرأةُ والشَّجاعةُ
[426] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/30). .
ومَعنى القاعِدةِ: أنَّه إذا كان للَّفظِ مَعنَيانِ مُتَساوٍ استِعمالُهما: مَعنًى حَقيقيٌّ، ومَعنًى مَجازيٌّ، وورد مُجَرَّدًا عن مُرَجِّحٍ يُرَجِّحُ أحَدَ المَعنَيَينِ على الآخَرِ، يُرادُ به حينَئِذٍ المَعنى الحَقيقيُّ لا المَجازيُّ
[427] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 133). ، أي: أنَّ الرَّاجِحَ عِندَ السَّامِعِ الحَقيقةُ لا المَجازُ عِندَ عَدَمِ القَرينةِ الصَّارِفةِ، أي: أنَّ الحَقيقةَ هيَ المُتَبادِرةُ في الذِّهنِ، الرَّاجِحةُ في العَقلِ عِندَ السَّامِعِ، وأمَّا المَعنى المَجازيُّ فهو خِلافُ الأصلِ، فلا يَجوزُ تَركُ المَعنى الحَقيقيِّ للَّفظِ بدونِ دَليلٍ يوجِبُ ذلك
[428] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (3/1113)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (1/92). ، واحتِمالُ غَيرِها بلا دَليلٍ لا يَقدَحُ في صِحَّةِ الاستِدلالِ؛ إذ قَلَّ أن يوجَدَ دَليلٌ بلا احتِمالٍ، فلا يُنافي ذلك القَطعيَّةَ، فإذا أرادَ أحَدٌ أن يُخرِجَ الكَلامَ عن حَقيقَتِه إلى المَجازِ فلا بُدَّ له مِن داعٍ يَدعوه لتَركِ الحَقيقةِ إلى المَجازِ، وإلَّا لكان عَبَثًا
[429] يُنظر: ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (3/303)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/89). .
قال الطُّوفيُّ: (اللَّفظُ مَتى ورَدَ وجَبَ حَملُه على الحَقيقةِ في بابِه، لُغةً أو شَرعًا أو عُرفًا، ولا يُحمَلُ على المَجازِ إلَّا بدَليلٍ يَمنَعُ حَملَه على الحَقيقةِ، مِن مُعارِضٍ قاطِعٍ، أو عُرفٍ مَشهورٍ)
[430] ((شرح مختصر الروضة)) (1/503). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الحَقيقةَ يَقينٌ، والمَجازَ شَكٌّ، واليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ إلَّا لسَبَبٍ أو عِلَّةٍ. فالحَقيقةُ أصلٌ في الكَلامِ، والمَجازُ فَرعٌ فيه، ولكَونِها أصلًا قُدِّمَت على المَجازِ، وكان العَمَلُ بها أَولى مِنَ العَمَلِ به، ما لم يوجَدْ مُرَجِّحٌ له، فيُصارُ إليه
[431] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/368). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ باستِعمالِ أهلِ اللُّغةِ، والإجماعِ:
1- مِن استِعمالِ أهلِ اللُّغةِ:فقد جاءَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: (كُنتُ لا أدري ما فاطِرُ السَّمَواتِ والأرضِ حتَّى أتاني أعرابيَّانِ يَختَصِمانِ في بئرٍ، فقال أحَدُهما لصاحِبِه: أنا فَطَرتُها، يَقولُ: أنا ابتَدَأتُها)
[432] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (9/175) واللفظ له، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (18428)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/212). جوَّد إسنادَه ابنُ كثير في ((فضائل القرآن)) (125). .
قال القَرافيُّ: (فهاهنا استَدَلُّوا بالاستِعمالِ على الحَقيقةِ، فلولا أنَّهم عَرَفوا أنَّ الأصلَ في الكَلامِ الحَقيقةُ، وإلَّا لما جازَ لهم ذلك)
[433] ((نفائس الأصول)) (2/870). .
2- مِنَ الإجماعِ:ومِمَّن نَقَله القَرافيُّ
[434] قال: (إجماعُ الكُلِّ على أنَّ الأصلَ في الكَلامِ الحَقيقةُ). ((نفائس الأصول)) (2/869). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لو قال: وقَفتُ على حُفَّاظِ القُرآنِ، لم يَدخُلْ فيه مَن كان حافِظًا ونَسيَه؛ لأنَّه لا يُطلَقُ عليه حافِظٌ إلَّا مَجازًا باعتِبارِ ما كان
[435] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 63). .
2- إذا سَمِعنا إنسانًا يَقولُ لآخَرَ: وهَبتُك السَّيَّارةَ. فيَتَرَجَّحُ لدَينا أنَّه أرادَ بها التَّبَرُّعَ المَجَّانيَّ -أي بدونِ مُقابِلٍ- وهذه هيَ دَلالةُ لفظِ الهِبةِ الحَقيقيِّ. ولكِنَّا إذا سَمِعناه يَقولُ: وهَبتُك هذه السَّيَّارةَ بعَشَرةِ آلافِ ريالٍ -مَثَلًا- فنَعلَمُ أنَّه ما أرادَ حَقيقةَ الهبةِ، وإنَّما أرادَ البَيعَ، واستَعمَل لفظَ الهبةِ في غَيرِ مَعناه الحَقيقيِّ، بدَليلِ قَولِه: بعَشَرةِ آلافٍ. فذِكرُ العِوَضِ قَرينةٌ على إرادةِ المَجازِ
[436] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/22). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِتَكميلًا للقاعِدةِ توجَدُ قاعِدَتانِ أُخرَيانِ
[437] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (18/51). ويُنظر أيضًا: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 133)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/367). :
الأولى: إذا تَعَذَّرَتِ الحَقيقةُ يُصارُ إلى المَجازِ. ومِن فُروعِها:
إذا حَلَف لا يَأكُلُ مِن هذه الشَّجَرةِ، وكانت مِمَّا لا يُؤكَلُ عَينُها، حَنِثَ بأكلِ ثَمَرِها إذا كان لها ثَمَرٌ، وإلَّا فبالأكلِ مِن ثَمَنِها (أو أيِّ عِوَضٍ عنها)؛ وذلك لتَعَذُّرِ الحَقيقةِ، كَما صَرَّحَ به الفُقَهاءُ.
الثَّانيةُ: الحَقيقةُ تُترَكُ بدَلالةِ العادةِ، ومِن فُروعِها:
لو حَلَف لا يُدخِلُ قدَمَه في دارِ فُلانٍ فإنَّه صارَ مَجازًا عنِ الدُّخولِ مُطلقًا حافيًا أو مُنتَعِلًا أو راكِبًا، حتَّى لو وضَعَ قدَمَه في الدَّارِ وهو خارِجُ البَيتِ ولم يَدخُلْ، لا يَحنَثُ، ولو دَخَل راكِبًا ولم يَضَعْ قدَمَه يَحنَثُ، وذلك لأنَّ المَعنى الحَقيقيَّ مَهجورٌ بدَلالةِ العادةِ.
هذا، وقد يَتَعَذَّرُ المَعنى الحَقيقيُّ والمَجازيُّ مَعًا، فلا يُمكِنُ إعمالُ الكَلامِ فيُهمَلُ، كَما لو أقَرَّ لزَوجَتِه التي هيَ مِن نَسَبٍ آخَرَ مَعروفٍ وأكبَرَ مِنه سِنًّا بأنَّها ابنَتُه، فلا يُمكِنُ حَملُ كَلامِه هذا على مَعنى حَقيقيٍّ؛ لأنَّها مَعروفةُ النَّسَبِ وأكبَرُ مِنه سِنًّا، ولا على المَعنى المَجازيِّ -أي مَعنى الوصيَّةِ- لكَونِها وارِثةً له، ولا وصيَّته لوارِثِها؛ فيُهمَلُ كَلامُه.