موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الرَّابعَ عَشَرَ: الأصلُ أنَّ القديمَ يُترَكُ على قِدَمِه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ أنَّ القديمَ يُترَكُ على قِدَمِه" [438] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/391)، ((شرح الوقاية)) لصدر الشريعة (5/111)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/443)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 16)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 95). ، وصيغةِ: "القديمُ يُترَكُ على حالِه" [439] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/42)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/245). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
إذا كان الشَّيءُ المُتَنازَعُ فيه قديمًا تُراعى فيه حالتُه التي هو عليها، بلا زيادةٍ ولا نَقصٍ ولا تَغييرٍ ولا تَحويلٍ، فهذا القديمُ يَجِبُ أن يُترَكَ على حالِه القديمِ إلَّا إذا قامَ الدَّليلُ على خِلافِه؛ لأنَّ بَقاءَ ذلك الشَّيءِ مُدَّةً طَويلةً دَليلٌ على أنَّه مُستَنِدٌ إلى حَقٍّ مَشروعٍ، فيُحكَمُ بأحَقِّيَّتِه، فلا يَتَغَيَّرُ ما لم يَقُمْ دَليلٌ على خِلافِه [440] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/24) و(3/239)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 95)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/251). .
ولوِ ادَّعى أحَدُ الخَصمَينِ الحُدوثَ، وادَّعى الآخَرُ القِدَمَ، فالقَولُ قَولُ مَن يَدَّعي القِدَمَ، والبَيِّنةُ بَيِّنةُ مَن يَدَّعي الحُدوثَ [441] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 98)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/251). .
والأخذُ بهذه القاعِدةِ يُفيدُ في استِقرارِ الأُمورِ وثُبوتِها حتَّى يَثبُتَ ما يُغَيِّرُها ويُزيلُها، كَما أنَّها مُهمَّةٌ في حَسمِ الاختِلافِ بَينَ النَّاسِ [442] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 97)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/135). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّ القديمَ ثابتٌ بيَقينٍ، فيَجِبُ بَقاؤُه على ما هو عليه، ولا يَزولُ عن حالِه إلَّا بدَليلٍ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بعِدَّةِ قَواعِدَ؛ مِنها:
1- أنَّ الأصلَ بَقاءُ ما كان على ما كان؛ فإنَّ وُجودَ الشَّيءِ في الماضي يُعتَبَرُ باقيًا باستِصحابِ الحالِ، سَواءٌ كان ثُبوتُ المِلكِ الماضي بالبَيِّنةِ أو بإقرارِ المُدَّعى عليه، ويُعتَبَرُ ذلك أصلًا يُعتَدُّ به ما لم يوجَدْ ما يُغَيِّرُه [443] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 95)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 178)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/135). .
2- أن بَقاءَ الشَّيءِ القديمِ مُدَّةً طَويلةً دَليلٌ على أنَّه مُستَنِدٌ على حَقٍّ مَشروعٍ، فيُحكَمُ بأحَقِّيَّتِه [444] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/24). .
3- أنَّ إبقاءَ القديمِ على قِدَمِه هو للظَّنِّ الغالِبِ بأنَّه ما أُحدِثَ في الأصلِ إلَّا على الوَجهِ الشَّرعيِّ؛ لحُسنِ الظَّنِّ بالمُسلمينَ، وعلى هذا ما كان في أيدي النَّاسِ وتَصَرُّفاتِهم قديمًا مِن أشياءَ ومَنافِعَ ومَرافِقَ مَشروعةٍ في أصلِها، يبقى لهم كَما هو، ويُعتَبَرُ قِدَمُه دَليلًا على أنَّه حَقٌّ مَوضوعٌ بطَريقٍ مَشروعٍ [445] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (3/241)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/251). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ يُعتَبَرُ فيها القِدَمُ؛ مِنها:
1- يُعتَبَرُ القِدَمُ في حَقِّ المُرورِ وحَقِّ المَجرى وحَقِّ المَسيلِ، إذا كان الشَّيءُ القديمُ قد وُضِعَ في الأصلِ بصورةٍ موافِقةٍ للشَّرعِ الشَّريفِ. فهذه الأشياءُ تُترَكُ وتَبقى على وَجهِها القديمِ الذي كانت عليه؛ حَيثُ إنَّه يَبقى الشَّيءُ القديمُ على حالِه، ولا يَتَغَيَّرُ ما لم يَقُمْ دَليلٌ على خِلافِه [446] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (3/239). ويُنظر أيضًا: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 95). .
2- لو كان لرَجُلٍ مياهٌ في أوقاتٍ مُتَفرِّقةٍ في قَريةٍ، لم يَجُزْ جَمعُها في وقتٍ إلَّا برِضاهم [447] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (6/444). .
3- لو أنَّ بالوعةَ دارٍ تَمُرُّ مِن دارٍ أُخرى، فصاحِبُ الدَّارِ الثَّانيةِ لا يَحِقُّ له سَدُّ تلك البالوعةِ ومَنعُ مُرورِها مِن دارِه؛ لأنَّه ما دامَ ذلك قديمًا فيُعتَبَرُ مُرورُ ذلك الماءِ لا بُدَّ أن يَكونَ مُستَنِدًا على حَقٍّ شَرعيٍّ، كَأن كانتِ الدَّارانِ مُشتَرِكَتَينِ، فجَرى تَقسيمُهما، وكان مِن شُروطِ التَّقسيمِ مُرورُ ماءِ إحداهما مِنَ الأُخرى [448] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/24). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
فوائِدُ:
1- القديمُ الذي يَجِبُ أن يُترَكَ على قِدَمِه هو القديمُ الموافِقُ للشَّرعِ، أمَّا القديمُ الضَّارُّ المُخالفُ للشَّرعِ الشَّريفِ فلا يُترَكُ على قِدَمِه مَهما تَقادَمَ عَهدُه، أي: أنَّ الشَّيءَ المَعمولَ بغَيرِ صورةٍ مَشروعةٍ في الأصلِ وفي ابتِداءِ وَضعِه: لا اعتِبارَ له، فلا يُترَكُ على قِدَمِه ولو كان قديمًا، ويُزالُ إذا كان فيه ضَرَرٌ فاحشٌ؛ لأنَّ الضَّرَرَ لا يَكونُ قديمًا، أي: لا يُعتَبَرُ قِدَمُه، ولا يُحكَمُ ببَقائِه.
فمَثَلًا: لو أنَّ أقذارَ دارِ شَخصٍ مِنَ القديمِ تَسيلُ إلى الطَّريقِ العامِّ، أو أنَّ بالوعةَ دارِ شَخصٍ تَسيلُ إلى النَّهرِ الذي يَشرَبُ ماءَه أهلُ البَلدِ، فلا يُعتَبَرُ قِدَمُه، ولا يبقى على حالِه، ويُدفَعُ ضَرَرُه ويُمنَعُ، ولا اعتِبارَ لقِدَمِه [449] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/24) و(3/239). .
2- إذا جُهِل حالُ المُتَنازَعِ فيه، ولم يُعرَفْ هَل هو قديمٌ أو حادِثٌ، فالأصلُ فيه أنَّه إن كان في طَريقٍ خاصٍّ يُعتَبَرُ قديمًا حتَّى يَقومَ الدَّليلُ على خِلافِه، وإن كان في طَريقٍ عامٍّ يُعتَبَرُ حَديثًا، فللإمامِ أن يَنقُضَه.
والمُرادُ بالطَّريقِ الخاصِّ هو ما كان مَملوكًا لقَومٍ، وليسَ للعامَّةِ فيه حَقٌّ أصلًا، كَما إذا كانت أرضٌ مُشتَرَكة بَينَ قَومٍ بَنَوا فيها مَساكِنَ وجَعَلوا بَينَهم مِنها طَريقًا، فصارَ مَملوكًا لهم على الخُصوصِ، فأمَّا إذا كانتِ السِّكَّةُ مُختَطَّةً مِنَ الأصلِ فحُكمُها حُكمُ طَريقِ العامَّةِ [450] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 97). .

انظر أيضا: