موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: لا ثَوابَ إلَّا بالنِّيَّةِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "لا ثَوابَ إلَّا بالنِّيَّةِ" [20] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 17). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـــصيغةِ: "نيَّةُ التَّقَرُّبِ شَرطٌ في الثَّوابِ" [21] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/213)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 43). ، وصيغةِ: "لا ثَوابَ ولا عِقابَ إلَّا بالنِّيَّةِ" [22] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 17). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُشيرُ القاعِدةُ إلى أنَّ الأعمالَ التي يَفعَلُها المُسلمُ مِن عِباداتٍ أو مُعامَلاتٍ أو تُروكٍ أو غَيرِ ذلك لا يُثابُ عليها إلَّا إذا نَوى بها وَجهَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فإن لم يَقصِدْ بعَمَلِه وَجهَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فلا ثَوابَ له عليه، فالثَّوابُ مُرتَبِطٌ بالنِّيَّةِ؛ فتارِكُ الزِّنا والخَمرِ إن تَركَها امتِثالًا للنَّهيِ كان مُثابًا، وإن تَركَها استِقذارًا لها لم يُثَبْ عليها، وكَذا مَن أعطى مالًا لإنسانٍ إن نَوى به الصَّدَقةَ طَلبًا للأجرِ مِنَ اللهِ حَصَل له الثَّوابُ، وإن لم يَنوِ لم يَحصُلْ له، فاتَّضَحَ أنَّ الثَّوابَ مُرتَبِطٌ بالنِّيَّةِ، وقد يُثابُ الشَّخصُ إن نَوى خَيرًا حتَّى وإن لم يَعمَلْه كَما أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((مَن هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها كُتِبَت له حَسَنةً )) [23] لفظه: عن أبي هرَيرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها كُتِبَت له حَسَنةً، ومَن هَمَّ بحَسَنةٍ فعَمِلَها كُتِبَت له عَشرًا إلى سَبعِ مِئةِ ضِعفٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها لم تُكتَبْ، وإن عَمِلها كُتِبَت)). أخرجه مسلم (130). وفي لفظٍ: عن أبي هرَيرةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَقولُ اللهُ: إذا أرادَ عَبدي أن يَعمَلَ سَيِّئةً فلا تَكتُبوها عليه حتَّى يَعمَلَها، فإن عَمِلَها فاكتُبوها بمِثلِها، وإن تَرَكَها مِن أجلي فاكتُبوها له حَسَنةً، وإذا أرادَ أن يَعمَلَ حَسَنةً فلم يَعمَلْها فاكتُبوها له حَسَنةً، فإن عَمِلَها فاكتُبوها له بعَشرِ أمثالِها إلى سَبعِ مِئةِ ضِعفٍ)). أخرجه البخاري (7501) واللَّفظُ له، ومسلم (128). ، وقال أبو الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه: (مَن أتى فِراشَه وهو يَنوي أن يُصَلِّيَ مِنَ اللَّيلِ، فغَلبَته عَيناه حتَّى يُصبِحَ، كَتَبَ اللهُ له ما نَوى) [24] أخرجه الحاكم (1186)، والبيهقي (4787) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البَيهَقيِّ: ((مَن أتى فِراشَه وهو ينوي أن يَقومَ يُصَلِّي باللَّيلِ، فغَلبَته عَينُه حتَّى يُصبحَ، كُتِبَ له ما نَوى، وكان نَومُه صَدَقةً عليه مِن رَبِّهـ)). وأخرجه النسائي (1788) عن سُفيان الثَّوريِّ، عن عَبدةَ، قال: سَمِعتُ سُوَيدَ بنَ غَفَلةَ، عن أبي ذَرٍّ، وأبي الدَّرداءِ: (مَن أتى فِراشَه وهو يَنوي أن يَقومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ فغَلبَته عَيناه حتَّى أصبَحَ، كُتِبَ له ما نَوى، وكان نَومُه صَدَقةً عليه مِن رَبِّه عَزَّ وجَلَّ). وأخرجه ابنُ خزيمة (1173) عن جَريرٍ، عنِ الأعمَشِ، عن حَبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، عن عَبدةَ بنِ أبي لُبابةَ، عن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، عن أبي الدَّرداءِ، قال: (مَن حَدَّثَ نَفسَه بساعةٍ مِنَ اللَّيلِ يُصَلِّيها فغَلبَته عَينُه فنامَ، كان نَومُه صَدَقةً عليه، وكُتِبَ له مِثلُ ما أرادَ أن يُصَلِّيَ). وأخرجه ابنُ خُزَيمة (1174) عن عَبدةَ بن أبي لُبابةَ، عن زِرّ بنِ حُبَيشٍ، أو عن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ -شَكَّ عَبدةُ- عن أبي الدَّرداءِ، أو عن أبي ذَرٍّ، قال: (ما مِن رَجُلٍ تَكونُ له ساعةٌ مِنَ اللَّيلِ يَقومُها فيَنامُ عنها إلَّا كَتَبَ اللَّهُ له أجرَ صَلاتِه، وكان نَومُه عليه صَدَقةً تصَدَّقَ بها عليهـ). وأخرجه ابنُ خُزَيمة (1175) عن سُفيانَ، قال: حَفِظتُه مِن عَبدةَ بنِ أبي لُبابةَ، قال: ذَهَبتُ مَعَ زِرِّ بنِ حُبَيشٍ إلى سويدِ بنِ غَفَلةَ نَعودُه، فحَدَّثَ سُوَيدٌ، أو حَدَّث زِرٌّ -وأكبَرُ ظَنِّي أنَّه سُوَيدٌ- عن أبي الدَّرداءِ، أو عن أبي ذَرٍّ، وأكبَرُ ظَنِّي أنَّه عن أبي الدَّرداءِ، أنَّه قال: (ليسَ عَبدٌ يُريدُ صَلاةً -وقال: مَرَّةً- مِنَ اللَّيلِ، ثُمَّ يَنسى فيَنامُ، إلَّا كان نَومُه صَدَقةً عليه مِنَ اللهِ، وكُتِبَ له ما نَوى). قال الدارقطني في ((العِلل)) (1074): يَرويه عَبدةُ بنُ أبي لُبابةَ، واختُلِف عنه؛ فرَواه حَبيبُ بنُ أبي ثابتٍ، وشُعبةُ، وابنُ عُيَينةَ، عن عَبدةَ بنِ أبي لُبابةَ، واختَلفوا فيه، فقال زائِدةُ، عنِ الأعمَشِ، عن حَبيبٍ، عن عَبدةَ، عن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ، عن أبي الدَّرداءِ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقال أبو عَوانةَ: عنِ الأعمَشِ، عن حَبيبٍ، عن عَبدةَ، عن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، عن أبي الدَّرداءِ مَوقوفًا. وخالفه في مَوضِعَينِ، وقال الثَّوريُّ: عن حَبيبٍ، عن عَبدةَ، عن زِرٍّ، عن أبي ذَرٍّ، وقال الثَّوريُّ: فلقيَت عَبدةَ، فحَدَّثَني عن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ، عن أبي الدَّرداءِ، وأبي ذَرٍّ. وقال شُعبةُ: عن عَبدةَ، عن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ؛ أنَّه عادَ زِرًّا في مَرَضِه، فقال: قال أبو ذَرٍّ، أو أبو الدَّرداءِ، شَكَّ شُعبةُ. ورَفعَه مِسكينُ بنُ بكيرٍ، عن شُعبةَ، ووقَفه غُندَرٌ وغَيرُه، ووقَفه ابنُ عُيَينةَ، عن عَبدةَ، ولم يَرفَعْه، والمَحفوظُ: المَوقوفُ. ، كَما يُثابُ المَرءُ على عَمَلِه إن نَوى به وَجهَ اللهِ وإن لم يَقَعِ العَمَلُ مَوقِعَه المُناسِبَ يُنظر لهذا المعنى الإجمالي: ((حاشية البجيرمي على شرح الخطيب)) (1/131)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (15/57،56). ، كَما في حَديثِ مَعنِ بنِ يَزيدَ بنِ الأخنَسِ الذي أخَذَ صَدَقةَ أبيه يَزيدَ مِنَ الرَّجُلِ الذي وُضِعَت عِندَه، وما كان أبوه يَقصِدُ أن تُؤَدَّى لابنِه مَعنٍ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لك ما نَوَيتَ يا يَزيدُ، ولك ما أخَذتَ يا مَعنُ )) [26] لفظُه: عن أبي الجُوَيريةِ، أنَّ مَعنَ بنَ يَزيدَ رَضِيَ اللهُ عنه حَدَّثَه قال: ((بايَعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا وأبي وجَدِّي، وخَطَبَ عليٌّ، فأنكَحَني وخاصَمتُ إليه، وكان أبي يَزيدُ أخرج دَنانيرَ يَتَصَدَّقُ بها، فوضَعَها عِندَ رَجُلٍ في المَسجِدِ، فجِئتُ فأخَذتُها، فأتَيتُه بها فقال: واللهِ ما إيَّاكَ أرَدتُ، فخاصَمتُه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: لكَ ما نَويتَ يا يَزيدُ، ولكَ ما أخَذتَ يا مَعنُ)). أخرجه البخاري (1422). .
قال القَرافيُّ: (ليسَ كُلُّ واجِبٍ يُثابُ على فِعلِه، ولا كُلُّ حَرامٍ يُثابُ على تَركِه، فنَفقاتُ الزَّوجاتِ وردُّ الغُصوباتِ والدُّيونِ والعَواريِّ إذا فعَلها المُكَلَّفُ غافِلًا عن نيَّةِ امتِثالِ أمرِ اللهِ فيها، وقَعَت واجِبةً مُبرِئةً للذِّمَّةِ ولا ثَوابَ، وأمَّا الثَّاني فلأنَّ المُحَرَّماتِ يَخرُجُ الإنسانُ عن عُهدَتِها بمُجَرَّدِ تَركِها وإن لم يَشعُرْ بها فضلًا عنِ القَصدِ إليها، حتَّى يَنويَ امتِثالَ أمرِ اللهِ تعالى فيها، فلا ثَوابَ حينَئِذٍ، نَعَم مَتى اقتَرَنَ قَصدُ الامتِثالِ في الجَميعِ حَصَل الثَّوابُ) [27] ((الذخيرة)) (1/67). .
وهذه القاعِدةُ أخَصُّ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الأُمورُ بمَقاصِدِها).
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ عليها بما سَبَقَ ذِكرُه في أدِلَّةِ قاعِدةِ (الأُمورُ بمَقاصِدِها). ويُضافُ إليها: الإجماعُ، ومِمَّن نَقَله: ابنُ نُجَيمٍ [28] قال: (القاعِدةُ الأولى: لا ثَوابَ إلَّا بالنِّيَّةِ، صَرَّحَ به المَشايِخُ في مَواضِعَ مِنَ الفِقهِ؛ أوَّلها في الوُضوءِ، سَواءٌ قُلنا: إنَّها شَرطُ الصِّحَّةِ -كَما في الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ- أو لا، كَما في الوُضوءِ والغُسلِ. وعلى هذا قَرَّروا حَديثَ ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) أنَّه مِن بابِ المُقتَضى؛ إذ لا يَصِحُّ بدونِ التَّقديرِ؛ لكَثرةِ وُجودِ الأعمالِ بدونِها، فقدَّروا مُضافًا، أي: حُكمُ الأعمالِ. وهو نَوعانِ: أُخرَويٌّ، وهو الثَّوابُ واستِحقاقُ العِقابِ، ودُنيَويٌّ، وهو الصِّحَّةُ والفسادُ. وقد أُريدَ الأُخرَويُّ بالإجماعِ؛ للإجماعِ على أنَّه لا ثَوابَ ولا عِقابَ إلَّا بالنِّيَّةِ، فانتَفى الآخَرُ أن يَكونَ مُرادًا؛ إمَّا لأنَّه مُشتَرَكٌ ولا عُمومَ له، أو لاندِفاعِ الضَّرورةِ به مِن صِحَّةِ الكَلامِ به، فلا حاجةَ إلى الآخَرِ). ((الأشباه والنظائر)) (ص: 17). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن دَخَل المَسجِدَ وقد أُقيمَتِ الصَّلاةُ فصَلَّى الفريضةَ ونَوى الفرضَ والتَّحيَّةَ، حَصَل له ثَوابُ التَّحيَّةِ، وإن نَوى الفَرضَ ولم يَنوِ التَّحيَّةَ لم يَحصُلْ له ثَوابُها؛ فحُصولُ الثَّوابِ مُرتَبِطٌ بنيَّتِه [29] يُنظر: ((الشرح الصغير)) مع حاشية الصاوي (1/406). .
2- إذا صَلَّى أحَدٌ صَلاةً تامَّةً بشُروطِها الكامِلةِ ولكِنَّه لم يَنوِ بها وَجهَ اللهِ، فإنَّ ما فعَله لا يُعتَبَرُ صَلاةً شَرعيَّةً ولم تَبرَأْ ذِمَّتُه، ولا ثَوابَ له على ما فعَل [30] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (8/ 861)، ((المفصل)) للباحسين (ص: 183). ونحوه: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (17- 18). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
دَفعُ وَهمٍ أو تَعارُضٍ:
هناكَ فَرقٌ بَينَ سُقوطِ المُطالَبةِ بالفِعلِ أو ما يُسَمَّى ببَراءةِ الذِّمَّةِ، وبَينَ حُصولِ الثَّوابِ عليه، فقد يَسقُطُ الفِعلُ عنِ المُكَلَّفِ ولا يُثابُ عليه لعَدَمِ النِّيَّة، وذلك كَمَن أزال النَّجاسةَ بدونِ نيَّةٍ، ففِعلُه صحيحٌ، لكِنَّه لا يُثابُ عليه لعَدَمِ النِّيَّةِ، وكَذا مَنِ اغتَسَل للجُمعةِ وعليه غُسلُ جَنابةٍ لم يَنْوِه، فإنَّه يَرتَفِعُ حَدَثُه ضِمنًا ولا يُثابُ ثَوابَ الفَرضِ، وهو غُسلُ الجَنابةِ، ما لم يَنوِه؛ لأنَّه لا ثَوابَ إلَّا بالنِّيَّةِ [31] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب على قواعد المذهب)) للمنجور (2/715)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (1/113). .

انظر أيضا: