موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ السَّادِسُ: النَّائِمُ مَعذورٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "النَّائِمُ مَعذورٌ" [5815] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (10/ 423)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 359)، ((النجم الوهاج)) للدميري (2/29). ، وصيغةِ: "النَّومُ يَمنَعُ تَوجُّهَ خِطابِ الأداءِ" [5816] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/96). ، وصيغةِ: "النَّومُ عُذرٌ غالِبٌ يَسقُطُ مَعَه الحَرَجُ والكُلفةُ" [5817] يُنظر: ((جواهر الدرر)) للتتائي (3/ 338). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
يَحدُثُ النَّومُ للإنسانِ بلا اختيارٍ مِنه، وتُمنَعُ الحَواسُّ الظَّاهرةُ والباطِنةُ عَنِ العَمَلِ مَعَ سَلامَتِها، وعَنِ استِعمالِ العَقلِ مَعَ قيامِه، فلا يَقدِرُ على أفعالِه الاختياريَّةِ التي هيَ أحوالُه؛ كالقيامِ والقُعودِ، ولا يَقدِرُ أيضًا على استِعمالِ الإدراكاتِ الحِسِّيَّةِ ليُدرِكَ المَحسوساتِ، ولا يَقدِرُ على استِعمالِ العَقلِ ليُدرِكَ المَعقولاتِ، فذلك يوجِبُ تَأخيرَ الخِطابِ في حَقِّ الأداءِ للعَجزِ عَن فهمِ مَضمونِ الخِطابِ، ولَم يَمنَعْ نَفسَ الوُجوبِ لتَحَقُّقِ الأهليَّةِ؛ فالشَّخصُ إذا فاتَته عِبادةٌ أو واجِبٌ شَرعيٌّ بسَبَبِ النَّومِ فإنَّه يَكونُ مَعذورًا شَرعًا؛ لأنَّ النَّومَ أمرٌ خارِجٌ عَن إرادةِ الإنسانِ، ولا يُمكِنُه التَّحَكُّمُ فيه بشَكلٍ كامِلٍ، لَكِن مَعَ ذلك يَجِبُ عليه أداءُ العِبادةِ أوِ الواجِبِ فورَ استيقاظِه أو تَذَكُّرِه، فالنَّومُ عَجزٌ عَنِ استِعمالِ قُدرةِ الأحوالِ، فأوجَبَ تَأخُّرَ الخِطابِ للأداءِ؛ لأنَّ النَّومَ لا يَمتَدُّ فلا يَكونُ في وُجوبِ القَضاءِ عليه حَرَجٌ، وإذا كان كذلك فلا يَسقُطُ أصلُ الوُجوبِ، وإنَّما يَكونُ النَّومُ عُذرًا في تَأخُّرِ أداءِ العِباداتِ، وبِالنِّسبةِ للعِباراتِ الصَّادِرةِ مِنَ النَّائِمِ والجِناياتِ فلا يُعتَدُّ بعِبارَتِه ولا يُعاقَبُ عَمَّا يَصدُرُ مِنه بحَدٍّ أو تَعزيرٍ، غَيرَ أنَّه يَضمَنُ مِثلَ ما أتلَفَ أو قيمَتَه [5818] يُنظر: ((إبراز الحكم)) للسبكي (ص: 60، 85)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/278)، ((إفادة الرائم لمسائل النائم)) لابن طولون (ص: 22). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((رُفِعَ القَلَمُ عَن ثَلاثٍ: عَنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَبلُغَ، وعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستَيقِظَ، وعَنِ المَجنونِ حَتَّى يُفيقَ )) [5819] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3987) واللفظ له، والبيهقي (21624) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، وحسَّنه ابنُ القيم في ((أحكام أهل الذمة)) (2/902)، وصحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (3987). ورُويَ عَن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ: لَقد عَلِمت أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُفِعَ القَلَمُ عَن ثَلاثةٍ: عَنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَبلُغَ، وعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستَيقِظَ، وعَنِ المَعتوهِ حَتَّى يَبرَأَ)). أخرجه أبو داود (4402) واللفظ له، وأحمد (1328) بنحوه صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/767)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4402)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4402). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المُؤاخَذةَ مَرفوعةٌ عَنِ النَّائِمِ بنَصِّ حَديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مَضمونُ القاعِدةِ بأنَّ النَّومَ عُذرٌ [5820] يُنظر: ((إبراز الحكم)) للسبكي (ص: 60، 85)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (17/331). .
- وعَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نَسيَ صَلاةً، أو نامَ عَنها، فكَفَّارَتُها أن يُصَلِّيَها إذا ذَكَرَها )) [5821] أخرجه مسلم (684). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ النَّائِمَ عَنِ الصَّلاةِ بفِعلِها حينَ يَذكُرُها؛ فدَلَّ على أنَّ النَّومَ عُذرٌ [5822] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (2/220)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/77،76). .
2- مِنَ المعقولِ:
وهو أنَّ النَّومَ يُنافي الاختيارَ؛ لأنَّ الاختيارَ بالتَّمييزِ، ولَم يَبقَ للنَّائِمِ تَمييزٌ [5823] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/278). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مَنِ استَغرَقَ الوقتَ بالنَّومِ فإنَّه مَعذورٌ في تَأخيرِ الصَّلاةِ، أمَّا مَن دَخَلَ عليه الوقتُ ثُمَّ نامَ، فإن ظَنَّ أنَّه لا يَستَيقِظُ قَبلَ خُروجِه أثِمَ، وكَذا إنِ احتَمَلَ أن لا يَستَيقِظَ [5824] يُنظر: ((النجم الوهاج)) للدميري (2/29). .
2- عِباراتُ النَّائِمِ فيما بُنيَ على الاختيارِ -مِثلُ الطَّلاقِ والإسلامِ والرِّدَّةِ والبَيعِ والشِّراءِ- باطِلةٌ، ويَصيرُ كَلامُه لعَدَمِ التَّمييزِ والِاختيارِ غَيرَ مُعتَبَرٍ [5825] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/278). .

انظر أيضا: