موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: تَصَرُّفُ المَريضِ فيما يَحتَمِلُ النَّقضَ بَعدَ نُفوذِه يَكونُ مَحكومًا بصِحَّتِه ثُمَّ يُنقَضُ بَعدَ مَوتِه ما يَتَعَذَّرُ تَنفيذُه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "تَصَرُّفُ المَريضِ فيما يَحتَمِلُ النَّقضَ بَعدَ نُفوذِه يَكونُ مَحكومًا بصِحَّتِه، ثُمَّ يُنقَضُ بَعدَ مَوتِه ما يَتَعَذَّرُ تَنفيذُه" [5826] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/130). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
التَّصَرُّفاتُ التي يَقومُ بها المَريضُ مَرَضَ المَوتِ إذا كانت تَقبَلُ النَّقضَ بَعدَ نُفوذِها تُعتَبَرُ صَحيحةً ونافِذةً أثناءَ حَياتِه، وبَعدَ وفاتِه يُنقَضُ مِن هذه التَّصَرُّفاتِ ما لا يُمكِنُ تَنفيذُه منها [5827] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/130). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالمَعقولِ:
وهو أنَّ تَصَرُّفَ هذا المَريضِ -فيما يُمكِنُ أن يُنقَضَ بَعدَ نُفوذِه- يَكونُ تَصَرُّفًا صَحيحًا؛ لأنَّ الذي يُمكِنُ نَقضُه هو ما ثَبَتَت صِحَّتُه، وأمَّا التَّصَرُّفُ الباطِلُ فلا يَلحَقُه النَّقضُ؛ لأنَّه مَنقوضٌ أصلًا، وهذا التَّصَرُّفُ الذي ثَبَتَت صِحَّتُه إذا تَعَذَّرَ تَنفيذُه بَعدَ مَوتِه يُنقَضُ لا لعَدَمِ صِحَّتِه بَل لاستِحالةِ تَنفيذِه [5828] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (2/320). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
رَجُلٌ استَأجَرَ في مَرَضِه رَجُلًا ليَخدُمَه سَنَتَه بجاريةٍ له بعَينِها لا مالَ له غَيرُها، فدَفَعَها إلَيه، وخَدَمَه الرَّجُلُ السَّنةَ كُلَّها وولَدَتِ الجاريةُ وزادَت في بَدَنِها، ثُمَّ صارَت تُساوي أكثَرَ مِن أجرِ مِثلِ الرَّجُلِ، ثُمَّ ماتَ المَريضُ؛ فإن كانت قيمَتُها يَومَ وقَعَتِ الإجارةُ وقَبَضَها الأجيرُ مِثلَ أجرِ مِثلِه أو أقَلَّ كانت له بزيادَتِها؛ لأنَّه لا مُحاباةَ فيها ولا وصيَّةَ، وإنَّما اعتُبِرَت قيمَتُها وقتَ القَبضِ؛ لأنَّ الأُجرةَ قَبلَ استيفاءِ المَنفَعةِ لا تُملَكُ بنَفسِ العَقدِ وإنَّما تُملَكُ بالقَبضِ، وإن كانت قيمَتُها يَومَئِذٍ أكثَرَ مِن أجرِ مِثلِه فإنَّه يُعطى الأجرَ مِنها؛ مِقدارَ أجرِ مِثلِه، وثُلُثَ ما تَرَكَ المَيِّتُ بَعدَ ذلك مِنَ الجاريةِ وولَدِها وصيَّةً له، ويَرُدُّ قيمةَ البَقيَّةِ على الورَثةِ؛ لأنَّه يُمكِنُ فيها مَعنى الوصيَّةِ بطَريقِ المُحاباةِ، فلا تَكونُ سالِمةً للأجيرِ، وتَبقى مَوقوفةً على حَقِّ المَريضِ، فيَثبُتُ حَقُّه في الزِّيادةِ مُتَّصِلةً كانت أو مُنفَصِلةً، فلا يَسلَمُ للأجيرِ مِنها إلَّا مِقدارُ أجرِ مِثلِه وثُلُثُ التَّرِكةِ بَعدَ ذلك مِنها ومِن ولَدِها بطَريقِ الوصيَّةِ، وفيما زادَ على ذلك يَلزَمُه رَدُّه، إلَّا أنَّه تَعَذَّرَ الرَّدُّ لمَكانِ الزِّيادةِ الحاصِلةِ في يَدِه بَعدَ ما يَملِكُها، فرَدَّ قيمةَ الزِّيادةِ. فإن قيلَ: إنَّما يَملِكُها بالقَبضِ بحُكمِ سَبَبٍ فاسِدٍ فيَنبَغي أن يَرُدَّ عَينَها مَعَ الزِّيادةِ. قُلنا: لا كذلك، بَل كان السَّبَبُ صَحيحًا يَومَئِذٍ؛ لأنَّ تَصَرُّفَ المَريضِ فيما يَحتَمِلُ النَّقضَ بَعدَ نُفوذِه يَكونُ مَحكومًا بصِحَّتِه، ثُمَّ يُنقَضُ بَعدَ مَوتِه ما يَتَعَذَّرُ تَنفيذُه، والمَقصودُ مِن هذا النَّقضِ دَفعُ الضَّرَرِ عَنِ الورَثةِ، وذلك يَحصُلُ برَدِّ قيمةِ الزِّيادةِ عليهم [5829] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/130). .

انظر أيضا: