الفَرعُ الثَّالِثُ: ما عُذِرَ فيه بالجَهلِ عُذِرَ فيه بالنِّسيانِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما عُذِرَ فيه بالجَهلِ عُذِرَ فيه بالنِّسيانِ"
[5805] يُنظر: ((الكافي)) (1/223)، ((المغني)) (2/466) كلاهما لابن قدامة. .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ. الأُمورُ التي يُعذَرُ الإنسانُ فيها بسَبَبِ جَهلِه بها فإنَّه يُعذَرُ كذلك إذا حَصَلَ مِنه نِسيانٌ لَها، فالجَهلُ والنِّسيانُ حالَتانِ يَشتَرِكانِ في كَونِهما مِنَ الأعذارِ التي تَرفَعُ المُؤاخَذةَ أوِ الإثمَ عَنِ المُكَلَّفِ في بَعضِ الحالاتِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّهما خارِجانِ عَن إرادةِ الإنسانِ، وكُلُّ ما عُذِرَ فيه الإنسانُ بسَبَبِ جَهلِه فإنَّه يُعذَرُ فيه بنِسيانِه دونَ العَكسِ؛ فقد يُعذَرُ الإنسانُ بالنِّسيانِ في بَعضِ المَواضِعِ ولا يُعذَرُ فيها بالجَهلِ
[5806] يُنظر: ((الكافي)) (1/223)، ((المغني)) (2/466)) كلاهما لابن قدامة. .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُستَدَلُّ على هذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والقياسِ:
1- من القُرآنِ:قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ [النساء: 17] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الجَهالةَ هنا بعِصيانِه لرَبِّه؛ فكُلُّ عاصٍ لله تَعالى فهو جاهلٌ بهذا الاعتِبارِ وإن كان عالِمًا بالتَّحريمِ
[5807] يُنظر: ((التفسير المحرر – سورة النساء)) (ص: 100). . فمِن بابِ أَولى أن يَرتَفِعَ عَنه الإثمُ لأجلِ نِسيانِه.
2- مِنَ القياسِ:يُستَدَلُّ على قاعِدةِ (ما عُذِرَ فيه بالجَهلِ عُذِرَ فيه بالنِّسيانِ) بقياسِ الأَولى. ووجهُ ذلك: أنَّ الجَهلَ قد يَكونُ فيه نَوعُ تَقصيرٍ أو تَعَمُّدٍ لحالةِ الجَهلِ ورَفعِها عَنِ المُكَلَّفِ، أمَّا النِّسيانُ فإنَّه أمرٌ بلا اختيارٍ مِنَ الإنسانِ، ويَكونُ غَيرَ مُكَلَّفٍ حالَ نِسيانِه، فهو أولى بالعُذرِ مِنَ الجَهلِ.
قال ابنُ قُدامةَ: (ما عُذِرَ فيه بالجَهلِ عُذِرَ فيه بالنِّسيانِ، بَلِ النِّسيانُ أولى)
[5808] ((المغني)) (2/ 466). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا رَأى على ثَوبِه أو بَدَنِه نَجاسةً بَعدَ الصَّلاةِ، وكان قد جَهلَها حَتَّى فرَغَ مِنَ الصَّلاةِ، ففيه رِوايَتانِ عِندَ الحَنابِلةِ:
إحداهما: يُعيدُ؛ لأنَّها طَهارةٌ واجِبةٌ، فلَم تَسقُطْ بالجَهلِ، كالوُضوءِ، وقياسًا على سائِرِ الشَّرائِطِ، والثَّانيةُ: لا يَلزَمُه؛ لِما رَوى أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَلَعَ نَعلَيه في الصَّلاةِ، فخَلَعَ النَّاسُ نِعالَهم، فقال: ما لَكُم خَلَعتُم؟ فقالوا: رَأيناكَ خَلَعتَ نَعلَيكَ، فخَلَعنا نِعالَنا، فقال: أتاني جِبريلُ عليه السَّلامُ، فأخبَرَني أنَّ فيهما قَذَرًا فخَلَعتُهما
[5809] لَفظُه: عَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ قال: ((بَينَما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي بأصحابِه إذ خَلَعَ نَعلَيه، فوضَعَهما عَن يَسارِه، فلَمَّا رَأى ذلك القَومُ ألقَوا نِعالَهم، فلَمَّا قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاتَه قال: ما حَمَلَكُم على إلقائِكُم نِعالَكُم؟ قالوا: رَأيناكَ ألقَيتَ نَعلَيكَ فألقَينا نِعالَنا، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ أتاني فأخبَرَني أنَّ فيهما قَذَرًا، وقال: إذا جاءَ أحَدُكُم إلى المَسجِدِ فليَنظُرْ، فإن رَأى في نَعلَيه قَذَرًا أو أذًى فليَمسَحْه وليُصَلِّ فيهما)). أخرجه أبو داود (650) واللفظ له، وأحمد (11877). صحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحهـ)) (2/21)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (2185)، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/314)، والنووي في ((المجموع)) (3/132)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/91)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (650). . ولَو بَطَلَت لاستَأنَفَها، فعَلى هذا إن عَلِمَ بها في الصَّلاةِ فأمكَنَه إزالَتُها بغَيرِ عَمَلٍ طَويلٍ فعَلَ كما فعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن عَلِمَ بها قَبلَ الصَّلاةِ ثُمَّ نَسيَها، فقال القاضي: يُعيدُ؛ لأنَّه فرَّطَ في تَركِها. وقال أبو الخَطَّابِ: فيها رِوايَتانِ، كالتي قَبلَها؛ لأنَّ ما عُذِرَ فيه بالجَهلِ عُذِرَ فيه بالنِّسيانِ، بَلِ النِّسيانُ أولى؛ لوُرودِ النَّصِّ بالعَفوِ فيه
[5810] يُنظر: ((الكافي)) (1/223)، ((المغني)) (2/466) كلاهما لابن قدامة. .
2- لَو تَكَلَّمَ في صَلاتِه جاهلًا بتَحريمِ الكَلامِ في الصَّلاةِ فيَحتَمِلُ أن لا تَبطُلَ صَلاتُه؛ لحَديثِ مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((بَينا أنا أُصَلِّي مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ، فقُلتُ: يَرحَمُكَ اللهُ، فرَماني القَومُ بأبصارِهم، فقُلتُ: واثُكلَ أُمِّياه! ما شَأنُكُم تَنظُرونَ إلَيَّ؟! فجَعَلوا يَضرِبونَ بأيديهم على أفخاذِهم، فلَمَّا رَأيتُهم يُصمِّتونَني سَكَتُّ، فلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبِأبي هو وأُمِّي، ما رَأيتُ مُعَلِّمًا قَبلَه ولا بَعدَه أحسَنَ تَعليمًا مِنه، فواللهِ ما كَهَرَني ولا ضَرَبَني ولا شَتَمَني، قال: إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شَيءٌ مِن كَلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقِراءةُ القُرآنِ، أو كما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: يا رَسولَ الله، إنِّي حَديثُ عَهدٍ بجاهليَّةٍ، وقد جاءَ اللهُ بالإسلامِ، وإنَّ مِنَّا رِجالًا يَأتونَ الكُهَّانَ، قال: فلا تَأتِهم... )) [5811] أخرجه مسلم (537). ، فلَم يَأمُرْه بالإعادةِ، فدَلَّ على صِحَّتِها، وأمَّا لَو تَكَلَّمَ ناسيًا أنَّه في الصَّلاةِ ففيه رِوايَتانِ؛ إحداهما: لا تَبطُلُ الصَّلاةُ، وهو قَولُ مالِكٍ، والشَّافِعيِّ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَكَلَّمَ في حَديثِ ذي اليَدَينِ
[5812] لَفظُه: عَن أبي هرَيرةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انصَرَفَ مِنِ اثنَتَينِ، فقال له ذو اليَدَينِ: أقَصُرَتِ الصَّلاةُ، أم نَسيتَ يا رَسولَ الله؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصَدَقَ ذو اليَدَينِ؟ فقال النَّاسُ: نَعَم، فقامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَلَّى اثنَتَينِ أُخرَيَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فسَجَدَ مِثلَ سُجودِه أو أطولَ. أخرجه البخاري (714) واللفظ له، ومسلم (573). ، ولَم يَأمُرْ مُعاويةَ بنَ الحَكَمِ بالإعادةِ إذ تَكَلَّمَ جاهلًا، وما عُذِرَ فيه بالجَهلِ عُذِرَ فيه بالنِّسيانِ. والثَّانيةُ: تَفسُدُ صَلاتُه. وهو قَولُ النَّخَعيِّ، وقَتادةَ، وحَمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ، وأصحابِ الرَّأيِ؛ لعُمومِ أحاديثِ المَنعِ مِنَ الكَلامِ، ولأنَّه ليس مِن جِنسِ ما هو مَشروعٌ في الصَّلاةِ، فلَم يُسامَحْ فيه بالنِّسيانِ، كالعَمَلِ الكَثيرِ مِن غَيرِ جِنسِ الصَّلاةِ
[5813] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/465-466). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تنبيهٌ:قد يُعذَرُ الإنسانُ بالنِّسيانِ في بَعضِ المَواضِعِ ولا يُعذَرُ فيها بالجَهلِ، فمِن ذلك:
تَفريقُ الحَنابِلةِ بَينَ الجاهلِ والنَّاسي في تَركِ التَّسميةِ على الذَّبيحةِ: فلَو تَرَكَ التَّسميةَ ناسيًا فإنَّها تَحِلُّ، وإن تَرَكَها جاهلًا فإنَّها لا تَحِلُّ
[5814] يُنظر: ((الروض المربع)) للبهوتي (3/ 440)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (15/ 80). .