الفَرعُ الثَّاني: الجَهلُ والنِّسيانُ يُعذَرُ بهما في حَقِّ اللهِ تَعالى في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الجَهلُ والنِّسيانُ يُعذَرُ بهما في حَقِّ اللهِ تَعالى في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ"
[5792] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/19). ، وصيغةِ: "الجَهلُ والنِّسيانُ في المَأمورِ به لا يُجعَلُ عُذرًا"
[5793] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (7/207). ، وصيغةِ: "المَنهيَّاتُ تَسقُطُ بالجَهلِ والنِّسيانِ، والمَأموراتُ لا تَسقُطُ بالجَهلِ والنِّسيانِ"
[5794] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (1/227). ، وصيغةِ: "تَركُ المَأمورِ لا يُعذَرُ فيه بالجَهلِ والنِّسيانِ بخِلافِ فِعلِ المَحظورِ"
[5795] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/ 472). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.تَقدَّمَ الكَلامُ على النِّسيانِ وأنَّه عُذرٌ في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ، كما في القاعِدةِ الأُمِّ. وتُضيفُ هذه القاعِدةُ إلى النِّسيانِ الجَهلَ؛ فهو كذلك عُذرٌ في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ، فإذا ارتَكَبَ المُكَلَّفُ شَيئًا مِنَ المُحَرَّماتِ أوِ المَنهيَّاتِ بسَبَبِ الجَهلِ فإنَّه يُعذَرُ ويُرفَعُ عَنه الإثمُ، أمَّا إذا تَرَكَ واجِبًا أو مَأمورًا بسَبَبِ الجَهلِ، فإنَّه يَبقى مُطالَبًا بأداءِ هذا الواجِبِ عِندَ العِلمِ به؛ لأنَّ حَقَّ اللهِ في المَأموراتِ لا يَسقُطُ بالجَهلِ، بخِلافِ المَنهيَّاتِ؛ فإنَّ الإثمَ والمُؤاخَذةَ تُرفَعُ بسَبَبِ الجَهلِ
[5796] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (7/207)، ((المنثور)) للزركشي (2/19). .
وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً للقاعِدةِ الأُمِّ (النِّسيانُ عُذرٌ في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ) مِن حَيثُ إنَّ الجَهلَ مِثلُ النِّسيانِ، فكِلاهما عُذرٌ في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدةِ (النِّسيانُ عُذرٌ في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ) ويُضافُ إلَيها مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَن مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((بَينا أنا أُصَلِّي مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ، فقُلتُ: يَرحَمُكَ اللهُ، فرَماني القَومُ بأبصارِهم، فقُلتُ: واثُكلَ أُمِّياه! ما شَأنُكُم تَنظُرونَ إلَيَّ؟! فجَعَلوا يَضرِبونَ بأيديهم على أفخاذِهم، فلَمَّا رَأيتُهم يُصمِّتونَني سَكَتُّ، فلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبِأبي هو وأُمِّي، ما رَأيتُ مُعَلِّمًا قَبلَه ولا بَعدَه أحسَنَ تَعليمًا مِنه، فواللهِ ما كَهَرَني ولا ضَرَبَني ولا شَتَمَني، قال: إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شَيءٌ مِن كَلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقِراءةُ القُرآنِ، أو كما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: يا رَسولَ الله، إنِّي حَديثُ عَهدٍ بجاهليَّةٍ، وقد جاءَ اللهُ بالإسلامِ، وإنَّ مِنَّا رِجالًا يَأتونَ الكُهَّانَ، قال: فلا تَأتِهم... )) [5797] أخرجه مسلم (537). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَأمُرْ مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه بإعادةِ الصَّلاةِ، وقد تَكَلَّمَ بما تَكَلَّمَ به ولَم تَفسُدْ صَلاتُه لجَهلِه بالنَّهيِ، فثَبَتَ بذلك أنَّ الجَهلَ عُذرٌ في المَنهيَّاتِ
[5798] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (1/220)، ((المنثور)) للزركشي (2/19). .
2- عَن يَعلى بنِ أُمَيَّةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو بالجِعرانةِ، وعليه جُبَّةٌ وعليه أثَرُ الخَلوقِ -أو قال: صُفرةٌ-، فقال:
((كَيفَ تَأمُرُني أن أصنَعَ في عُمرَتي؟ فأنزَلَ اللهُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسُتِرَ بثَوبٍ، وودِدتُ أنِّي قد رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد أُنزِلَ عليه الوحيُ، فقال عُمَرُ: تَعالَ، أيَسُرُّكَ أن تَنظُرَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد أنزَلَ اللهُ عليه الوحيَ؟ قُلتُ: نَعَم، فرَفَعَ طَرَفَ الثَّوبِ، فنَظَرتُ إلَيه له غَطيطٌ - وأحسَبُه قال: كَغَطيطِ البَكرِ- فلَمَّا سُرِّيَ عَنه قال: أينَ السَّائِلُ عَنِ العُمرةِ؟ اخلَعْ عَنكَ الجُبَّةَ، واغسِلْ أثَرَ الخَلوقِ عَنكَ، وأنقِ الصُّفرةَ، واصنَعْ في عُمرَتِكَ كما تَصنَعُ في حَجِّكَ)) [5799] أخرجه البخاري (1789) واللفظ له، ومسلم (1180). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ نَصَّ على أنَّ مَن أصابَه في إحرامِه طيبٌ ناسيًا أو جاهلًا فلا كَفَّارةَ عليه، وهو مَضمونُ القاعِدةِ أنَّ الجَهلَ والنِّسيانَ عُذرٌ في المَنهيَّاتِ
[5800] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (8/404)، ((المنثور)) للزركشي (2/19). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعدةِ:
1- مَن جَهلَ كَونَ هذا الشَّرابِ خَمرًا فشَرِبَه فلا إثمَ عليه ولا حَدَّ ولا تَعزيزَ؛ لأنَّ هذه إنَّما شُرِعَت زَواجِرَ لأجلِ المُعاودةِ
[5801] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (2/275،274). .
2- لَو جَهلَ الحاجُّ ما عليه، فلَم يَرمِ الجَمَراتِ حَتَّى انقَضَت أيَّامُ الرَّميِ، فحُكمُه فيما يَلزَمُه مِنَ الفِديةِ حُكمُ المُتَعَمِّدِ؛ لأنَّ المَأمورَ لا يَسقُطُ بالجَهلِ
[5802] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/400)، .
3- مَن أرادَ نُسُكًا وجاوزَ ميقاتًا غَيرَ مُحرِمٍ وهو جاهلٌ بذلك، فهو مُسيءٌ وعليه الدَّمُ؛ لأنَّه مَأمورٌ بالإحرامِ مِنَ الميقاتِ، والجَهلُ ليس عُذرًا في تَركِ المَأموراتِ
[5803] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (3/338،337). .
4- إذا تَطَيَّبَ أو لَبِسَ مَخيطًا جاهلًا فلا كَفَّارةَ عليه فإنَّهما مِنَ المَحظوراتِ، والجَهلُ عُذرٌ فيه
[5804] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (3/338). .