موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الخامِس والعِشرونَ: كُلُّ عَقدٍ يُشتَرَطُ فيه القَبضُ لا يَجوزُ شَرطُ الخيارِ فيه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذا المَعنى في الصِّيَغِ الآتيةِ: صيغةِ: "لا يَجوزُ شَرطُ الخيارِ في كُلِّ عَقدٍ يُشتَرَطُ فيه قَبضُ العِوَضينِ في المَجلسِ، ولا فيما يُشتَرَطُ فيه قَبضُ أحَدِ العِوَضينِ" [5603] يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (8/48)، ((المفاتيح)) للزيداني (3/409)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/295). ، وصيغةِ: "كُلُّ عَقدٍ يُشتَرَطُ فيه قَبضُ الثَّمَنِ في مَجلِسِ العَقدِ لا يَجوزُ اشتِراطُ الخيارِ فيه" [5604] يُنظر: ((المعاملات المالية)) للدبيان (8/62). ، وصيغةِ: "ما يُشتَرَطُ فيه القَبضُ في المَجلسِ فلا يَدخُلُه خيارُ الشَّرطِ" [5605] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/49). ، وصيغةِ: "اشتِراطُ الخيارِ يَمنَعُ تَمامَ القَبضِ" [5606] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/124). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
العُقودُ على الأعيانِ مِن حَيثُ القَبضُ قِسمانِ:
الأوَّلُ: يُشتَرَطُ فيه التَّقابُضُ، وهو قَبضُ البَدَلَينِ في المَجلسِ، مِثلُ: عَقدِ الصَّرفِ، وبَيعِ الطَّعامِ بالطَّعامِ، أو قَبض أحَدِ البَدَلَينِ كالسَّلَمِ (وهو بَيعُ شَيءٍ مَوصوفٍ مُؤَجَّلٍ بثَمَنٍ مُعَجَّلٍ)، فهنا لا يَثبُتُ خيارُ الشَّرطِ؛ لأنَّ شَرطَ هَذَينِ العَقدَينِ أن يَتَفرَّقَ المُتَعاقِدانِ ولا عَلاقةَ بَينَهما؛ تَحَرُّزًا عنِ الرِّبا في الصَّرفِ، وبَيعِ الطَّعامِ بالطَّعامِ، وعَنِ الكالئِ بالكالئِ في السَّلَمِ؛ فلَو أثبَتنا الخيارَ لبَقيَتِ العَلاقةُ بَعدَ التَّفرُّقِ.
والثَّاني: لا يُشتَرَطُ فيه القَبضُ في المَجلسِ، كَبَيعِ العَينِ بالعَينِ مِمَّا سِوى الذَّهَبِ والفِضَّةِ، كما في سائِرِ بُيوعِ الأعيانِ، فهذه يَثبُتُ فيها خيارُ الشَّرطِ، وكَذلك التَّوليةُ والتَّشريكُ، وصُلحُ المُعاوَضةِ، إن لم يَكُنِ القَبضُ فيه شَرطًا في المَجلسِ يَثبُتُ فيها الخيارُ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ كُلَّ عَقدٍ يُشتَرَطُ فيه قَبضُ العِوَضينِ في المَجلسِ لا يَجوزُ اشتِراطُ الخيارِ فيه، مِثلُ عَقدِ الصَّرفِ، وبَيعِ الطَّعامِ بالطَّعامِ. وكَذلك لا يَجوزُ شَرطُ الخيارِ فيما يُشتَرَطُ فيه قَبضُ أحَدِ العِوَضينِ، وهو عَقدُ السَّلَمِ؛ لأنَّ القَبضَ شَرطٌ فيها لكَي يَتَفرَّقا عن عَقدٍ لازِمٍ لا عَلاقةَ بَينَهما، وشَرطُ الخيارِ يَنفي هذا المَعنى؛ حَيثُ إنَّ القَبضَ -فيما يُشتَرَطُ القَبضُ فيه- يَقَعُ مَوقِعَ أحَدِ جَوابَي البَيعِ وغَيرِه؛ فإنَّه رُكنٌ في تَحصيلِ مَقصودِ العَقدِ [5607] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (6/79)، ((التهذيب)) (3/292)، ((شرح السنة)) (8/48) كلاهما للبغوي، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/219)، ((العزيز)) للرافعي (4/193)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (8/62). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ:
فقد نَفى النَّوويُّ وُجودَ خِلافٍ في المَسألةِ [5608] قال: (البُيوعُ التي يُشتَرَطُ فيها التَّقابُضُ في المَجلسِ، كالصَّرفِ، وبَيعِ الطَّعامِ بالطَّعامِ، أوِ القَبضِ في أحَدِ العِوَضينِ، كالسَّلَمِ، لا يَجوزُ شَرطُ الخيارِ فيها بلا خِلافٍ). ((المجموع)) (9/192). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- لا يَجوزُ بَيعُ الطَّعامِ بالطَّعامِ بشَرطِ الخيارِ، فإن تَبايَعا بشَرطِ الخيارِ إلى ثَلاثةِ أيَّامٍ فما دونَها فلا يَجوزُ؛ لأنَّه مِنَ البُيوعِ التي يَجري فيها الرِّبا، فلا يَجوزُ فيها شَرطُ الخيارِ؛ لأنَّه لا يَجوزُ أن يَتَفرَّقا قَبلَ تَمامِ المَبيعِ؛ ولهذا لا يَجوزُ أن يَتَفرَّقا إلَّا عن قَبضِ العِوَضينِ، فلَو جَوَّزنا شَرطَ الخيارِ لتَفَرَّقا ولَم يَتِمَّ البَيعُ بَينَهما [5609] يُنظر: ((التنبيهـ)) (ص: 87)، ((المهذب)) (2/5) كلاهما للشيرازي. .
2- لا يَجوزُ شَرطُ الخيارِ فيما يُشتَرَطُ فيه قَبضُ أحَدِ العِوَضينِ في المَجلسِ، وهو عَقدُ السَّلَمِ؛ لأنَّ القَبضَ شَرطٌ فيه لكَي يَتَفرَّقَ المُتَعاقِدانِ عن عَقدٍ لازِمٍ لا عَلاقةَ بَينَهما، وشَرطُ الخيارِ يَنفي هذا المَعنى؛ لأنَّ شَرطَ الخيارِ فيه يَمنَعُ تَمامَ القَبضِ المُستَحَقِّ بالعَقدِ [5610] يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (8/48)، ((المفاتيح)) للزيداني (3/409)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/145). .
3- يَجوزُ اشتِراطُ الخيارِ في عَقدِ الإجارةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّه عَقدُ مُعامَلةٍ لا يُستَحَقُّ فيه القَبضُ حالَ المَجلسِ، فجازَ شَرطُ الخيارِ فيه كالبَيعِ، ولأنَّ كُلَّ خيارٍ ثَبَتَ في البَيعِ يَثبُتُ في الإجارةِ [5611] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3617)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/41). .

انظر أيضا: