موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: المَنافِعُ لها حُكمُ الأعيانِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَنافِعُ لها حُكمُ الأعيانِ" [5485] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/140). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ تجري مَجرى الأعيانِ" [5486] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3330)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/296)، ((بحر المذهب)) للروياني (6/400)، ((البيان)) للعمراني (6/531)، ((الممتع)) لابن المنجى (3/28)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/386)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (6/164، 186)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/503). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ تجري مَجرى الأعيانِ في صِحَّةِ العَقدِ عليها" [5487] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/581)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (13/340)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/643)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (5/515)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (5/393)، ((المنح الشافيات)) للبهوتي (2/467)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/397). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ تُجرى مجرى الأعيانِ في المِلكِ والعَقدِ عليها" [5488] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/356)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (15/103)، ((الإيمان)) لعبد الرحمن آل الشيخ (ص: 100). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ بمَنزِلةِ الأعيانِ" [5489] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3589)، ((الهداية)) للمرغيناني (3/241)، ((المغني)) لابن قدامة (8/7)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (6/102). ، وصيغةِ: "المَنفعةُ في مَحَلِّها تَحُلُّ مَحَلَّ الأعيانِ" [5490] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (7/354). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ بمَنزِلةِ المَنقولِ" [5491] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (6/515)، ((البناية)) للعيني (8/250)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/515)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/183). ، وصيغةِ: "كُلُّ مَن مَلَكَ شَيئًا بعِوَضٍ مَلَكَ عليه عِوَضَه في آنٍ واحِدٍ" [5492] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/316). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
العَقدُ: إمَّا ماليٌّ مِنَ الطَّرَفينِ حَقيقةً، كالبَيعِ والسَّلَمَ (وهو بَيعُ شَيءٍ مَوصوفٍ مُؤَجَّلٍ بثَمَنٍ مُعَجَّلٍ)، أو حُكمًا، كالإجارةِ، فهيَ عَقدٌ على المَنافِعِ.
وقدِ اشتَهرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ المَنافِعَ هَيئةٌ قائِمةٌ بالمَحالِّ، تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الأعيانِ في عَقدِ الإجارةِ حَتَّى تَثبُتَ لها أحكامُ الأعيانِ، فتجري مَجرى الأعيانِ وتَحُلُّ مَحَلَّها؛ ولذلك يَجوزُ العَقدُ عليها كَجَوازِه على الأعيانِ، وتُضمنُ بالمُسَمَّى في العَقدِ الصَّحيحِ، وبعِوَضِ المِثلِ في العَقدِ الفاسِدِ، وتَصِحُّ هبَتُها والوصيَّةُ بها كالأعيانِ [5493] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/296)، ((الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (1/412)، ((بحر المذهب)) للروياني (6/400)، ((البيان)) للعمراني (6/531)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 230)، ((المنثور)) للزركشي (2/402). .
قال الشَّافِعيُّ: (الإجاراتُ صِنفٌ مِن البُيوعِ؛ لأنَّ البُيوعَ كُلَّها إنَّما هيَ تَمليكٌ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهما لصاحِبه، يَملِكُ بها المُستَأجِرُ المَنفعةَ التي في العَبدِ والبَيتِ والدَّابَّةِ إلى المُدَّةِ التي اشتَرَطَ، حَتَّى يَكونَ أحَقَّ بالمَنفعةِ التي مَلَكَ مِن مالكِها، ويَملكُ بها مالكُ الدَّابَّةِ والبَيتِ العِوضَ الذي أخَذَه عنها، وهذا: البَيعُ نَفسُهـ) [5494] ((الأم)) (4/26). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تَعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تَعالى نَصَّ على جَوازِ الإجارةِ وأخذِ الأُجرةِ؛ إذ إنَّ بالنَّاسِ حاجةً إلى تلك المَنافِعِ وأخذِ الأعواضِ عليها، فكان ذلك جائِزًا كالأعيانِ؛ لأنَّ الحاجةَ إلى المَنافِعِ كالحاجةِ إلى الأعيانِ [5495] يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/652)، ((المهذب)) للشيرازي (2/243)، ((العزيز)) للرافعي (6/91). .
- وقال اللهُ تَعالى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص: 27] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّه يَصِحُّ بَذلُ المَنفعةِ مَهرًا للمَرأةِ، فدَلَّ على أنَّ المَنفعةَ مالٌ، وإلَّا لما صَحَّ جَعلُها مَهرًا [5496] يُنظر: ((المعاملات المالية)) للدبيان (1/148). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا عِندَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم جُلوسًا، فجاءَته امرَأةٌ تَعرِضُ نَفسَها عليه، فخَفَّضَ فيها النَّظَرَ ورَفعَه، فلم يُرِدْها، فقال رَجُلٌ مِن أصحابه: زَوِّجْنيها يا رَسولَ اللهِ، قال: أعندَك مِن شَيءٍ؟ قال: ما عِندي مِن شَيءٍ، قال: ولا خاتَمٌ مِن حَديدٍ؟ قال: ولا خاتَمٌ مِن حَديدٍ، ولَكِنْ أشُقُّ بُردَتي هذه فأُعطيها النِّصفَ، وآخُذُ النِّصفَ، قال: لا، هَل مَعَك مِنَ القُرآنِ شَيءٌ؟ قال: نَعَم، قال: اذهَبْ فقد زَوَّجتُكها بما مَعَك مِنَ القُرآنِ)) [5497] أخرجه البخاري (5132) واللفظ له، ومسلم (1425). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جَعَلَ المَنافِعَ في حُكمِ الأموالِ؛ فإنَّ قَولَه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قد زَوَّجتُكها بما مَعَك مِنَ القُرآنِ)) الباءُ في قَوله: ((بما مَعَك)) للعِوَضِ، فإذا جُعِلَ التَّعليمُ عِوضًا في النِّكاحِ دَلَّ على أنَّه مالٌ، ولَو لم يَكُنِ التَّعليمُ مالًا لم يَصِحَّ جَعلُه صَداقًا؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالى قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء: 24] ؛ ففي الآيةِ دَليلٌ على أنَّ ما لا يُسَمَّى مالًا لا يَكونُ مَهرًا [5498] يُنظر: ((المعاملات المالية)) للدبيان (1/144). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- المَنافِعُ تُنَزَّلُ مَنزِلةَ الأعيانِ في عَقدِ الإجارةِ، وتَثبُتُ لها أحكامُ الأعيانِ، فالمَنافِعُ المَعقودُ عليها تُملَكُ مُقتَرِنةً بالعَقدِ، ويَتَفرَّعُ عن هذا أنَّ الأُجرةَ تُملَكُ بنَفسِ العَقدِ في الإجارةِ المُطلَقةِ دفعةً واحِدةً، كالثَّمَنِ في بَيعِ الأعيانِ [5499] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 230). .
2- إذا دَفعَ رَجُلٌ إلى آخَرَ أرضًا فزَرَعَها، ثُمَّ اختَلَفا، فقال المالِكُ: أكرَيْتُكها بكَذا، وقال الزَّارِعُ: بَل أعَرْتَنيها. فالقَولُ قَولُ مالكِ الأرضِ؛ لأنَّ المَنافِعَ تجري مَجرى الأعيانِ، بدَليلِ أنَّه يَصِحُّ العَقدُ عليها، وتُضمنُ بالغَصبِ، وتَصِحُّ الوصيَّةُ بها، كالأعيانِ [5500] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (6/400)، ((البيان)) للعمراني (6/531). .
3- إذا دَفعَ رَجُلٌ إلى غَيرِه دابَّةً أو غَيرَها مِنَ الأعيانِ المُنتَفَعِ بها مَعَ بَقائِها، ثُمَّ اختَلَف المالكُ والقابضُ، فقال المالِكُ: أجَّرتُك، فقال القابِضُ: بَل أعَرْتَني. وكان ذلك عَقِبَ العَقدِ بأن لم يَمضِ زَمَنٌ له أُجرةٌ عادةً، والدَّابَّةُ أو غَيرُها قائِمةٌ لم تَتلَفْ، فالقَولُ قَولُ القابضِ بيَمينِه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ عَقدِ الإجارةِ، وحينَئِذٍ تُرَدُّ العَينُ إلى مالكِها؛ لأنَّه لا مُستَحِقَّ لها غَيرُه. وإن كان الاختِلافُ بَعدَ مُضيِّ مُدَّةٍ لها أُجرةٌ عادةً فالقَولُ قَولُ المالكِ فيما مَضى مِنَ المُدَّةِ مَعَ يَمينِه؛ لأنَّهما اختَلَفا في كَيفيَّةِ انتِقالِ المَنافِعِ إلى مِلكِ القابضِ، فقُدِّمَ قَولُ المالكِ؛ إذِ المَنافِعُ تجري مَجرى الأعيانِ دونَ ما بقَي مِنَ المُدَّةِ، فلا يُقبَلُ قَولُ المالكِ فيه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ العَقدِ [5501] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (9/222). .
4- إذا غَصَبَ دابَّةً أو دارًا فعلى غاصِبِها أُجرةُ مِثلِها مِن يَومِ غَصَبَها إلى يَومِ رَدَّها؛ لأنَّ المَنافِعَ تجري مَجرى الأعيانِ في مُعظَمِ الأحكامِ، وقد تَلِفَت المَنافِعُ في يَدِ الغاصِبِ [5502] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (6/428). .

انظر أيضا: