موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ التَّاسِعُ: كُلُّ عَقدٍ صَحَّ مِنَ البَصيرِ صَحَّ مِنَ الأعمى


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ عَقدٍ صَحَّ مِنَ البَصيرِ صَحَّ مِنَ الأعمى" [5112] يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/556). ، وصيغةِ: "كُلُّ عَقدٍ جازَ أن يَقبَلَه البَصيرُ جازَ أن يَقبَلَه الضَّريرُ" [5113] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/339). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه تَصِحُّ عُقودُ الأعمى كما تَصِحُّ مِنَ البَصيرِ، ولا فرقَ بَينَ كَونِه عاقِدًا لنَفسِه أو لغَيرِه؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ مُحتاجٌ إليها، فصارَ كالبَصيرِ، ولَو بَطَلَت عُقودُه لكان الأعمى مَحجورًا عليه.
أمَّا تَصَرُّفاتُ الأعمى في غَيرِ العُقودِ فقد نَصَّ الحَنَفيَّةُ أنَّه كالبَصيرِ أيضًا إلَّا في مَسائِلَ: فلا جِهادَ عليه، ولا جُمُعةَ ولا جَماعةَ، ولا حَجَّ، وإن وجَدَ قائِدًا يَقودُه في ذلك، ولا يَصلُحُ كَونُه شاهدًا ولَو فيما تُقبَلُ فيه الشَّهادةُ بالتَّسامُعِ، ولا ديةَ في عَينَيه، وإنَّما الواجِبُ حُكومةُ عَدلٍ، وكُرِه أذانُه وَحدَه وإمامَتُه إلَّا أن يَكونَ أعلَمَ القَومِ، ولا يَجوزُ إعتاقُه عنِ الكَفَّاراتِ، ولا كَونُه إمامًا أعظَمَ ولا قاضيًا [5114] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (3/92)، ((التجريد)) للقدوري (5/2603)، ((روضة القضاة)) لابن السمناني (2/692)، ((الأشباه والنظائر)) (ص: 270)، ((البحر الرائق)) (6/34) كلاهما لابن نجيم، ((النهر الفائق)) لسراج الدين ابن نجيم (3/385)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 405)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/600). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تَعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّ بَيعَ الأعمى وشِراه جائِزٌ كالبَصيرِ؛ حَيثُ لم يُفرِّقِ اللَّهُ تَعالى بَينَ العُميانِ والبُصَراءِ [5115] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (3/92)، ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (2/1032). .
2- مِنَ الإجماعِ
فقد نَقَلَ ابنُ نُجَيمٍ الإجماعَ على صِحَّةِ سائِرِ عُقودِه [5116] قال: (صَحَّ عَقدُ الأعمى، أي: بَيعُه وشِراؤُه وسائِرُ عُقودِه؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ مُحتاجٌ إليها، فصارَ كالبَصيرِ، ولتَعامُلِ النَّاسِ له مِن غَيرِ نَكيرٍ، فصارَ بمَنزِلةِ الإجماعِ). ((البحر الرائق)) (6/34). ، ونَقله الكاسانيُّ على صِحَّةِ بَيعِه وشِرائِه [5117] قال: (وأمَّا الإجماعُ فإنَّ العُميانَ في كُلِّ زَمانٍ مِن لدُنْ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُمنَعوا مِن بياعاتِهم وأشرِيَتِهم، بَل بايَعوا في سائِرِ الأعصارِ مِن غَيرِ إنكارٍ). ((بدائع الصنائع)) (5/164). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يَصِحُّ مِنَ الأعمى البَيعُ والشِّراءُ بالصِّفةِ، فبَيعُه وشِراؤُه جائِزٌ إذا كان يَعرِفُ ما يوصَفُ له، سَواءٌ وُلِد أعمى أو كان بَصيرًا ثُمَّ عَميَ، ولأنَّ هذا مِمَّا قد نَقَلَتِ الأُمَّةُ جَوازَه؛ لأنَّ النَّاسَ تَعاهَدوا ذلك مِن لدُنِ الصَّدرِ الأوَّلِ إلى يَومِنا هذا، ومِنَ الصَّحابةِ مَن عَميَ وكان يَتَولَّى ذلك مِن غَيرِ نَكيرٍ. كما أنَّ أهلَ كُلِّ عَصرٍ لا يَخلونَ مِن عُميانٍ يَكونونَ فيهم، يَتَصَرَّفونَ في الشِّراءِ والبَيعِ، ولَم يُذكَرْ عن أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ والخَلفِ بُطلانُ بَيعِه وشِرائِه [5118] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (3/92)، ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/556)، ((البناية)) للعيني (8/94)، ((الاختيار)) للموصلي (2/10). .
2- يَثبُتُ للأعمى خيارُ الرُّؤيةِ؛ لأنَّه اشتَرى ما لم يَرَه، ويَسقُطُ خيارُه بجَسِّ المَبيعِ أو بشَمِّه أو بذَوقِه، وفي العَقارِ بوصفِه، وفي الثَّوبِ بذِكرِ طُولِه وعَرضِه؛ لأنَّه يَحصُلُ له بذلك العِلمُ بالمُشتَرى كالنَّظَرِ مِنَ البَصيرِ، ولَو وُصِف له العَقارُ ثُمَّ أبصَرَ لا خيارَ له، ولَوِ اشتَرى البَصيرُ ما لم يَرَه ثُمَّ عَميَ فهو كالأعمى عِندَ العَقدِ [5119] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (2/10). ويُنظر أيضًا: ((أصول السرخسي)) (13/77)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/164). .
3- يَصِحُّ تَوكيلُ الأعمى، فلا يُشتَرَطُ أن يَكونَ الوكيلُ بَصيرًا [5120] يُنظر: ((المختصر الفقهي)) لابن عرفة (7/8)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (3/519). .
4- يَجوزُ للأعمى عَقدُ النِّكاحِ، ويَجوزُ نِكاحُه زَوجَتَه وهو لا يَعرِفُها إلَّا بصَوتِها، لكِنَّه يَتَكَرَّرُ عليه سَماعُ صَوتِها حَتَّى يَقَعَ له العِلمُ بأنَّها هيَ، وإلَّا فمَتى احتَمَلَ عِندَه احتِمالًا قَويًّا أنَّها غَيرُها لم يَجُزْ له الإقدامُ عليها [5121] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/266). .

انظر أيضا: