الفرعُ الثَّالثُ: التَّبَرُّعُ في المَرَضِ وصيَّةٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّبَرُّعُ في المَرَضِ وصيَّةٌ"
[5091] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2084)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 68). ، وصيغةِ: "حُكمُ التَّبَرُّعِ في المَرَضِ حُكمُ الوصيَّةِ"
[5092] يُنظر: ((البدر التمام)) للمغربي (10/119)، ((سبل السلام)) للصنعاني (8/114). ، وصيغةِ: "التَّبَرُّعُ في المَرَضِ يَتَقَيَّدُ بالثُّلثِ"
[5093] يُنظر: ((العقود الدرية)) لابن عابدين (2/57). ، وصيغةِ: "كُلُّ تَبرُّعٍ في مَرَضِ المَوتِ فهو مَحسوبٌ مِنَ الثُّلثِ وإن كان مُنجَزًا"
[5094] يُنظر: ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1220)، ((العزيز)) للرافعي (7/40). ، وصيغةِ: "الإنسانُ لا يَملكُ التَّبَرُّعَ في مَرَضِ مَوتِه إلَّا بثُلثِ تَرِكَتِه"
[5095] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (8/95). ، وصيغةِ: "إذا وقَعَ التَّبَرُّعُ في مَرَضٍ مَخوفٍ، فإن بَرِئَ مِنه كان مِن رَأسِ المالِ، وإن ماتَ به كان مِنَ الثُّلثِ"
[5096] يُنظر: ((الغاية)) للعز بن عبد السلام (4/459). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه إذا تَبرَّع أحَدٌ في المَرَضِ المَخوفِ مِنه مَوتُ المَريضِ فإنَّ تَبَرُّعَه بمَنزِلةِ الوصيَّةِ، فيُنَفَّذُ مِنَ الثُّلثِ ولا يَتَعَدَّاه، وما زادَ على الثُّلثِ يُحجَرُ عليه فيه، فإن أجازَ الورَثةُ أو بَرِئَ مِن مَرَضِه صَحَّ تَبَرُّعُه؛ لأنَّ الوصيَّةَ تُعتَبَرُ مِنَ الثُّلثِ، بخِلافِ تَبَرُّعِ الصَّحيحِ؛ لأنَّ تَبَرُّعاتِ الصَّحيحِ تُعتَبَرُ مِن جَميعِ المالِ. وإن لم يَكُنِ المَرَضُ مَخوفًا لم يُحجَرْ عليه. والمَخوفُ: كُلُّ ما لا يُؤمَنُ فيه المَوتُ، كالحُمَّى الحادَّةِ، والسُّلِّ، وذاتِ الجَنبِ، وما يَقولُ الأطِبَّاءُ: إنَّه سَبَبُ الهَلاكِ غالبًا، وكُلُّ ما أشكَلَ، أُخِذَ فيه بقَولِ أهلِ المَعرِفةِ بالطِّبِّ
[5097] ينظر للمعنى الإجمالي: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2084)، ((الذخيرة)) للقرافي (7/137)، ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1220)، ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (ص: 318)، ((البدر التمام)) للمغربي (10/119)، ((المعاملات المالية المعاصرة)) للدبيان (18/424). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (التَّبَرُّعُ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها -على قَولِ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ- أنَّ التَّبَرُّعَ في المَرَضِ لا يَتِمُّ إلَّا بالتَّسليمِ؛ لأنَّ التَّبَرُّعَ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ، كما في الوقفِ مَثَلًا، "فيَدفعُه إلى قَيِّمِ الأوقافِ، ويُزيلُ يَدَه عنه؛ لأنَّ عِندَه التَّسليمَ شَرطٌ في الوُقوفِ كما في سائِرِ الأوقافِ. وعِند أبي يوسُفَ رَحِمَه اللهُ: التَّسليمُ ليس بشَرطٍ لصِحَّةِ الوقفِ، ولَكِنَّ الإشهادَ يَكفي"
[5098] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2084). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُني عامَ حَجَّةِ الوداعِ مِن وجَعٍ اشتَدَّ بي، فقُلتُ: إنِّي قد بَلَغَ بي مِنَ الوجَعِ، وأنا ذو مالٍ، ولا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ، أفأتَصَدَّقُ بثُلُثَي مالي؟ قال: لا، فقُلتُ: بالشَّطرِ؟ فقال: لا، ثُمَّ قال: الثُّلثُ، والثُّلثُ كَبيرٌ -أو كَثيرٌ- إنَّك أن تَذَرَ ورَثَتَك أغنياءَ خَيرٌ مِن أن تَذَرَهم عالةً يَتَكَفَّفونَ النَّاسَ، وإنَّك لن تُنفِقَ نَفقةً تَبتَغي بها وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ بها، حتَّى ما تَجعَلُ في في امرَأتِك )) [5099] أخرجه البخاري (1295) واللفظ له، ومسلم (1628). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ تَبَرُّعاتِ المَريضِ ناجِزةٌ، وأنَّها مِنَ الثُّلثِ، ولا تَتَعَدَّاه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جَعَلَ صَدَقَتَه في مَرَضِه مِنَ الثُّلثِ كَوصاياه بَعدَ مَوتِه
[5100] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (16/183)، ((المعاملات المالية المعاصرة)) للدبيان (18/429). .
- وعَن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَجُلًا أعتَقَ سِتَّةَ مَملوكينَ له عِندَ مَوتِه، لم يَكُنْ له مالٌ غَيرُهم، فدَعا بهم رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فجزَّأهم أثلاثًا، ثُمَّ أقرَع بَينَهم، فأعتَقَ اثنَينِ، وأرَقَّ أربَعةً، وقال له قَولًا شَديدًا )) [5101] أخرجه مسلم (1668). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ حُكمَ التَّبَرُّعِ في المَرَضِ حُكمُ الوصيَّةِ، يُنَفَّذُ مِنَ الثُّلثِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعتَقَ ثُلُثَهم، وأرَقَّ ثُلثَيهم، فدَلَّ هذا على أنَّ كُلَّ تَبرُّعٍ في المَرَضِ المَخوفِ فهو مَحسوبٌ في الثُّلثِ وإن كان مُنجَزًا
[5102] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (7/137)، ((البدر التمام)) للمغربي (10/119)، ((سبل السلام)) للصنعاني (8/114)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/226). .
2- مِنَ الإجماعِ:فقد نُقِلَ الإجماعُ على أنَّ عَطايا المَريضِ وهِباتِه في مَرَضِ المَوتِ تُنَفَّذُ مِنَ الثُّلثِ، ومِمَّن نَقَل الإجماعَ: ابنُ المُنذِرِ
[5103] قال: (أجمَعوا على أنَّ حُكمَ الهِباتِ في المَرَضِ الذي يَموتُ فيه الواهِبُ حُكمُ الوصايا، وتَكونُ مِنَ الثُّلثِ إذا كانت مَقبوضةً). ((الإجماع)) (ص: 113). وقال أيضًا: (أجمَعَ كُلُّ مَن نَحفظُ عَنه مِن أهلِ العِلمِ على أنَّ حُكمَ الهباتِ في المَرَضِ الذي يَموتُ فيه الواهِبُ حُكمُ الوصايا، ويَكونُ مِنَ الثُّلثِ إذا كانت مَقبوضةً). ((الإشراف)) (7/87). ، وابنُ حَزمٍ
[5104] قال: (اتَّفقوا أنَّ الصَّدَقةَ المُطلَقةَ والهبةَ والعَطيَّةَ إذا كانت مُجَرَّدةً بغَيرِ شَرطِ ثَوابٍ ولا غَيرِه، ولا كانت في مشاعٍ، فإن كانت عَقارًا أو غَيرَه وكانت مُفرَّغةً غَيرَ مَشغولةٍ مِن حينِ الصَّدَقةِ إلى حينِ القَبضِ فقَبِلَها المَوهوبُ له أوِ المُعطى أوِ المُتَصَدَّقُ عليه، وقَبضها عَنِ الواهبِ أوِ المُعطي أوِ المُتَصَدِّقِ في صِحَّةِ الواهِبِ والمُعطي والمُتَصَدِّقِ، فقد مَلَكَها ما لم يَرجِعِ الواهبُ والمُعطي في ذلك. واتَّفقوا أنَّ كُلَّ ذلك مِنَ المَريضِ إذا كان ثُلُثَ مالِه فأقَلَّ أنَّه نافِذٌ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 96). ، وابنُ هُبَيرةَ
[5105] قال: (اتَّفَقوا على أنَّ عَطايا المَريضِ وهِباتِه مِنَ الثُّلُثِ). ((اختلاف الأئمة)) (2/72). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- مَن كان عليه حَجَّةُ الإسلامِ أوِ الزَّكاةُ أوِ الكَفَّاراتُ وَجَبت في الصِّحَّةِ أو في المَرَضِ، فأوصى بها، تَصِحُّ مِنَ الثُّلثِ بمَنزِلةِ التَّبَرُّعِ في المَرَضِ
[5106] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) لعلاء الدين السمرقندي (3/206). .
2- إذا تَبَرَّع الرَّجُلُ في المَرَضِ المَخوفِ تَبَرُّعًا مُنجَزًا، ثُمَّ سَقَطَ مِن سَطحٍ، فإنَّه يُعتَبَرُ تَبَرُّعُه مِنَ الثُّلُثِ نَظَرًا إلى السَّبَبِ الظَّاهرِ الذي كان يَستَمِرُّ لولا حُصولُ الحادِثِ؛ لأنَّ التَّبَرُّعَ صَدَر عِندَ الخَوفِ مِنَ المَوتِ، فاستَمَرَّ حُكمُه
[5107] يُنظر: ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (ص: 318)، ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (3/95)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/66). .
3- إذا أسقَطَ مَريضٌ عن وارِثِه دَينًا، أو أوصى بقَضاءِ دَينٍ عن وارِثِه، أو أسقَطَتِ المَرأةُ المَريضةُ صَداقَها عن زَوجِها، أو عَفا المَريضُ عن جِنايةٍ موجِبُها المالُ في مَرَضِه المَخوفِ، فكُلُّ ذلك كالوصيَّةِ، يَتَوقَّفُ على إجازةِ باقي الورَثةِ؛ لأنَّه تَبرُّعٌ في المَرَضِ، فهو كالعَطيَّةِ فيه. وإن وصَّى لولَدِ وارِثِه بالثُّلثِ فما دونَ ذلك صَحَّ؛ لأنَّها وصيَّةٌ لغَير وارِثٍ، فإن قَصد بذلك نَفْعَ الوارِثِ لم يَجُزْ فيما بَينَه وبَينَ اللهِ تَعالى؛ لأنَّ الوسائِلَ لها حُكمُ المَقاصِدِ، وتُنَفَّذُ حُكمًا
[5108] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (10/211)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (4/450). .
4- إذا وهَبَ الرَّجُلُ في حالِ الصِّحَّةِ وأقبضَ في المَرَضِ، فيُعتَبَرُ مِنَ الثُّلثِ؛ لأنَّ القَبضَ مُعتَبَرٌ في الهبةِ ويُحجَرُ عليه إلَّا في الثُّلثِ
[5109] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (7/137)، ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1220)، ((العزيز)) للرافعي (7/40). .
5- إذا تَبَرَّعَ الرَّجُلُ بالوقفِ في مَرَضِه أو أوصى بَعدَ مَوتِه كان ذلك مِن ثُلثِ مالِه كَسائِرِ تَبَرُّعاتِه؛ لأنَّ التَّبَرُّعَ في المَرَضِ وصيَّةٌ، والوصيَّةُ تُعتَبَرُ مِنَ الثُّلثِ
[5110] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2084). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.فائِدةٌ:إذا اختَلَف الوارِثُ والمُتَبَرَّعُ عليه في أنَّ المُتَبَرِّعَ ماتَ في المَرَضِ الذي تَبرَّع فيه أو في غَيرِه، مَعَ اتِّفاقِهما على أنَّ التَّبَرُّعَ واقِعٌ في حالِ مَرَضٍ، فقال الوارِثُ: إنَّه ماتَ في مَرَضِ التَّبَرُّعِ، وقال المُتَبَرَّعُ عليه: إنَّه شفيَ مِن مَرَضِه الذي تَبَرَّعَ فيه وماتَ مِن مَرَضٍ آخَرَ أو فجأةً، ففيه تَفصيلٌ: إن كان المَرَضُ الذي تَبرَّع فيه مَخوفًا صُدِّقَ الوارِثُ، وإن لم يَكُنِ المَرَض مَخوفًا صُدِّقَ المُتَبَرَّعُ عليه؛ وذلك لأنَّ غَيرَ المَخوفِ بمَنزِلةِ الصِّحَّةِ
[5111] يُنظر: ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (3/249). .