موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: يُغتَفَرُ في التَّبَرُّعاتِ ما لا يُغتَفَرُ في المُعاوَضاتِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "يُغتَفرُ في التَّبَرُّعاتِ ما لا يُغتَفرُ في المُعاوَضاتِ" [5070] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (3/166)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (4/328)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (6/299)، ((حاشية البجيرمي على شرح المنهج)) (3/380). ، وصيغةِ: "يُغتَفرُ في بابِ التَّبَرُّعاتِ ما لا يُغتَفَرُ في بابِ المُعاوَضاتِ" [5071] يُنظر: ((الأسئلة والأجوبة)) للسلمان (7/26). ، وصيغةِ: "بابُ التَّبَرُّعِ أوسَعُ مِن بابِ المُعاوَضةِ" [5072] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (11/173). ، وصيغةِ: "مَبنى التَّبَرُّعِ على المُساهَلةِ" [5073] يُنظر: ((البناية)) للعيني (8/190)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (4/59). ، وصيغةِ: "يُغتَفَرُ في القُربةِ ما لا يُغتَفَرُ في المُعاوَضةِ" [5074] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (6/237)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/361)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (3/188). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
عُقودُ التَّبَرُّعاتِ: هيَ كُلُّ عَقدٍ قُصِدَ مِنه الإحسانُ والإرفاقُ، مِثلُ: الهِبةِ، والوصيَّةِ، والوَقفِ، والعاريَّةِ.
وعُقودُ المُعاوَضاتِ: هيَ كُلُّ عَقدٍ قائِمٍ على التَّبادُلِ، وقُصِدَ مِنه العِوَضُ، والرِّبحُ، والكَسبُ، مِثلُ: البَيعِ، والشِّراءِ، والإجارةِ، والسَّلَمِ، والمُساقاةِ، والمُزارعةِ، والشَّرِكةِ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ هناكَ فرقًا بَينَ عُقودِ التَّبَرُّعاتِ وعُقودِ المُعاوَضاتِ، فيُغتَفرُ في عُقودِ التَّبَرُّعِ ويُتَسامَحُ فيها ما لا يُغتَفرُ في عُقودِ المُعاوَضاتِ؛ لأنَّ عُقودَ المُعاوَضاتِ أضيَقُ مِن عُقودِ التَّبَرُّعاتِ؛ ولذلك يُؤَثِّرُ الغَرَرُ في عُقودِ المُعاوَضاتِ دونَ عُقودِ التَّبَرُّعاتِ، كما اغتُفِرَ في عُقودِ التَّبَرُّعاتِ هِبةُ المَجهولِ، والوصيَّةُ به، وعَدَمُ القُدرةِ على تَسليمِه، وكُلُّ هذه الأُمورِ لا يَجوزُ بَيعُها [5075] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (6/299)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (11/173)، ((الأسئلة والأجوبة)) للسلمان (7/26)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (12/375) و(16/110)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 220). .
وهذه القاعِدةُ لها عَلاقةٌ بالقاعِدةِ الأُمِّ (التَّبَرُّعُ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ)، ووَجهُ ذلك أنَّه قد يُغتَفرُ في قَبضِ التَّبَرُّعاتِ ما لا يُغتَفرُ في غَيرِها مِن عُقودِ المُعاوَضاتِ، فتُعَدُّ القاعِدةُ تَقييدًا للقاعِدةِ الأُمِّ في بَعضِ التَّبَرُّعاتِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تَعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِ اللهِ تَعالى: وَالْمَيْسِرُ وهو كُلُّ مُعامَلةٍ يَدخُلُ فيها الإنسانُ وهو إمَّا غانِمٌ أو غارِمٌ، وهذا يَكونُ في عُقودِ المُعاوَضاتِ.
مِثالُ ذلك: إذا بِعتُ الكِتابَ بثَمَنٍ مَجهولٍ، فالمُشتَري الآنَ يَدخُلُ وهو إمَّا غانِمٌ أو غارِمٌ؛ لأنَّ الثَّمَنَ إن كان أقَلَّ مِن قيمةِ الكِتابِ يَكونُ غانِمًا، وإن كان أكثَرَ مِن قيمةِ الكِتابِ يَكونُ غارِمًا، فهو الآن دَخل في المُخاطَرةِ، وأيضًا المُثَمَّنُ إذا اشتَراه شَخصٌ وهو مَجهولٌ يَدخُلُ في هذه المُعامَلةِ وهو إمَّا غانِمٌ أو غارِمٌ، وكَذلك البائِعُ يَدخُلُ في هذه المُعامَلةِ وهو إمَّا غانِمٌ أو غارِمٌ إذا كان المُثَمَّنُ مَجهولًا، فإذا كان الثَّمَنُ أكثَرَ بالنِّسبةِ للمُشتَري فهو غارِمٌ، وإن كان الثَّمَنُ أقَلَّ فهو غانِمٌ، وهكذا.
أمَّا عُقودُ التَّبَرُّعاتِ فهيَ أخَفُّ وأوسَعُ؛ ففي عُقودِ التَّبَرُّعاتِ يَصِحُّ أن تَهَبَ المَجهولَ والمَعدومَ، فلَو قُلتُ لك: وهَبتُك ما في جَيبي مِنَ النُّقودِ، صَحَّ ذلك، لكِن في البَيعِ لا يَصِحُّ أن أبيعَ المَجهولَ، ويَصِحُّ أن أهَبَه ما تَحمِلُ شاتي أو شَجَرَتي.
ففَرقٌ بَينَ عُقودِ المُعاوَضاتِ وعُقودِ التَّبَرُّعاتِ: فعُقودُ المُعاوَضاتِ يَدخُلُ فيها الإنسانُ وهو مُغامِرٌ -مُخاطِرٌ- إمَّا غانِمٌ أو غارِمٌ، أمَّا بالنِّسبةِ لعُقودِ التَّبَرُّعاتِ فيَدخُلُ الإنسانُ فيها وهو إمَّا غانِمٌ أو سالمٌ، ففَرقٌ بَينَ البابَينِ [5076] يُنظر: ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 221). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لمَّا قَدِمَ المُهاجِرونَ المَدينةَ مِن مَكَّةَ، وليس بأيديهم -يَعني شَيئًا- وكانتِ الأنصارُ أهلَ الأرضِ والعَقارِ، فقاسَمَهمُ الأنصارُ على أن يُعطوهم ثِمارَ أموالِهم كُلَّ عامٍ، ويَكفوهمُ العَمَلَ والمَؤونةَ، وكانت أُمُّه أمُّ أنَسٍ أمُّ سُلَيمٍ كانت أمَّ عَبدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلحةَ، فكانت أعطَت أمُّ أنَسٍ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عِذاقًا، فأعطاهنَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّ أيمَنَ مَولاتَه أمَّ أُسامةَ بنِ زَيدٍ. قال ابنُ شِهابٍ: فأخبَرَني أنَسُ بنُ مالكٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا فرَغَ مِن قَتلِ أهلِ خَيبَرَ، فانصَرَف إلى المَدينةِ رَدَّ المُهاجِرونَ إلى الأنصارِ منائِحَهم التي كانوا مَنَحوهم مِن ثِمارِهم، فرَدَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أُمِّه عِذاقَها، وأعطى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّ أيمَنَ مَكانَهنَّ مِن حائِطِه [5077] أخرجه البخاري (2630) واللفظ له، ومسلم (1771). . وفي رِوايةٍ: مَكانَهنَّ مِن خالِصِه [5078] أخرجها البخاري معلقًا بصيغة الجزم بعد حديث (2630)، وأخرجها موصولةً الذهلي في ((الزهريات)) كما في ((تغليق التعليق)) لابن حجر (3/367)، والبرقاني في ((المصافحة)) كما في ((فتح الباري)) لابن حجر (5/244). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على جَوازِ هِبةِ المَجهولِ؛ فإنَّ الثَّمَرةَ مَجهولةٌ، وهذا لا يُؤَدِّي إلى فسادٍ في عِوَضٍ، ولا إلى غَرَرٍ في عَقدٍ؛ لأنَّ هذه الهبةَ إن قُصِدَ بها الأجرُ فهو حاصِلٌ بحَسَبِ نيَّةِ الواهِبِ، سَواءٌ وصَلَ المَوهوبُ لتلك الهبةِ أو لا. وإن أرادَ المَحَبَّةَ والتَّودُّدَ فإن حَصَلَتِ الهبةُ للمَوهوبِ حَصَلَ ذلك المَقصودُ، وإلَّا فقد عَلِم المَوهوبُ له اعتِناءَ الواهِبِ به وإرادةَ إيصالِ الخَيرِ له. وفيه دَليلٌ على أنَّ ما وُهبَت مَنفعَتُه ثُمَّ انقَضَت وجَبَ رَدُّ أصلِها [5079] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (4/592). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- تَصِحُّ الوصيَّةُ بالمَجهولِ، وعَدَم القُدرةِ على تَسليمِه؛ لأنَّ الوصيَّةَ مَحضُ تَبَرُّعٍ فاغتَفِر فيها ما لا يُغتَفرُ في المُعاوَضاتِ، وهذا المَجهولُ لا يَجوزُ بَيعُه [5080] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (3/166)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (6/299)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (12/375). .
2- تَصِحُّ الكَفالةُ بالمَجهولِ؛ لأنَّ الكَفالةَ عَقدُ تَبَرُّعٍ، ومَبنى التَّبَرُّعِ على المُساهَلةِ. فإذا قال: ما كان لك على فُلانٍ فهو عليَّ. فجَهالةُ الأجَلِ فيها إذا كانت يَسيرةً مُستَدرَكةً لا تَمنَعُ صِحَّةَ الأجَلِ. ولَو كانت غَيرَ مُستَدرَكةٍ، كالكَفالةِ إلى هبوبِ الرِّيحِ أو إلى أن تُمطِرَ السَّماءُ، صَحَّتِ الكَفالةُ، ولا يَصِحُّ الأجَلُ، ويَكونُ حالًّا [5081] يُنظر: ((البناية)) للعيني (8/190)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (4/59). .
3- التَّأمينُ الصِّحِّيُّ الاجتِماعيُّ، وهو الذي تَقومُ به الدَّولةُ لمَصلَحةِ الموظَّفينَ والعُمَّالِ، فتُؤَمِّنُهم مِن إصابةِ المَرَضِ والشَّيخوخةِ، ويُسهمُ في حَصيلَتِه كُلٌّ مِنَ المُستَفيدينَ وأربابِ الأعمالِ والدَّولةِ بنِسَبٍ مُحَدَّدةٍ، ويَكونُ -في الغالِبِ- إجباريًّا لا يُقصَدُ مِن ورائِه تَحقيقُ الرِّبحِ: لا حَرَجَ على المُستَفيدِ مِنه؛ فقدِ اتَّفقَتِ الآراءُ على أنَّ هذا النَّوعَ مِنَ التَّأمينِ جائِزٌ شَرعًا؛ وذلك لأنَّه يَكونُ إجباريًّا تَفرِضُه الدَّولةُ عَمَلًا بالقاعِدةِ الفِقهيَّةِ (تَصَرُّفُ الإمامِ على الرَّعيَّةِ مَنوطٌ بالمَصلَحةِ)، والمَصلَحةُ هنا تَتَمَثَّلُ في تَحقيقِ التَّكامُلِ الاجتِماعيِّ على أساسٍ مِنَ التَّبَرُّعِ، بَعيدًا عن غَرَضِ الرِّبح؛ ولذا يُغتَفرُ فيه مِنَ الجَهالةِ والغَرَرِ ما لا يُغتَفرُ في المُعاوَضاتِ [5082] يُنظر: ((الفقه الميسر)) لعبد الله الطيار وآخرين (12/88). .
4- قياسُ عَقدِ التَّأمينِ التِّجاريِّ على الوعدِ المُلزِمِ عِندَ مَن يَقولُ به، لا يَصِحُّ؛ لأنَّه قياسٌ مَعَ الفارِقِ، ومِنَ الفُروقِ أنَّ الوعدَ بقَرضٍ أو إعارةٍ أو تَحَمُّلِ خَسارةٍ مَثَلًا مِن بابِ المَعروفِ المَحضِ، فكان الوفاءُ به واجِبًا، أو مِن مَكارِمِ الأخلاقِ. بخِلافِ عُقودِ التَّأمينِ؛ فإنَّها مُعاوَضةٌ تِجاريَّةٌ باعِثُها الرِّبحُ المادِّيُّ، فلا يُغتَفرُ فيها ما يُغتَفرُ في التَّبَرُّعاتِ مِنَ الجَهالةِ والغَرَرِ [5083] يُنظر: ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) (2/475). .

انظر أيضا: