موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: التَّبَرُّعُ لا يَصلُحُ سَبَبًا للاستِحقاقِ على المُتَبَرِّعِ في غَيرِ ما تَبَرَّع به


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّبَرُّعُ لا يَصلُحُ سَبَبًا للاستِحقاقِ على المُتَبَرِّعِ في غَيرِ ما تَبَرَّع به" [5084] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/35). ، وصيغةِ: "التَّبَرُّعُ لا يَصلُحُ سَبَبًا للاستِحقاقِ على المُتَبَرِّعِ" [5085] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/209). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
اشتَهرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ مَن تَبَرَّعَ لآخَرَ بشَيءٍ مُعَيَّنٍ لا يَكونُ تَبَرُّعُه هذا سَبَبًا للاستِحقاقِ عليه ومُطالَبَتِه بشَيءٍ آخَرَ زيادةً على ما تَبَرَّعَ به، أو بشَيءٍ آخَرَ غَيرِه؛ لأنَّ إيجابَ شَيءِ لم يَتَبَرَّعْ به يُخالفُ مَوضوعَ التَّبَرُّعاتِ؛ فإنَّه لا لُزومَ على المُتَبَرِّعِ؛ ولذلك فإنَّ تَمامَ إزالةِ المِلكِ بطَريقِ التَّبَرُّعِ إنَّما يَكونُ بالتَّسليمِ حَتَّى لا يَكونَ مُستَحَقًّا عليه قَبلَ التَّسليمِ؛ لأنَّه لو لزِمَه قَبلَ التَّسليمِ لصارَ مُستَحَقًّا عليه، والتَّبَرُّعُ لا يَصلُحُ سَبَبًا للاستِحقاقِ على المُتَبَرِّعِ في غَيرِ ما تَبَرَّعَ به [5086] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/35)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/41)، ((العناية)) للبابرتي (1/455)، ((البناية)) للعيني (10/162)، ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (9/21)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (2/182). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (التَّبَرُّعُ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المُتَبَرِّعَ قَبلَ القَبضِ ليس مُلزَمًا بالتَّبَرُّعِ؛ حَيثُ إنَّ التَّبَرُّعَ لا يَصلُحُ سَبَبًا للاستِحقاقِ عليه، فلا يَتِمُّ التَّبَرُّعُ إلَّا بالقَبضِ؛ لأنَّ في إثباتِ المِلكِ قَبلَ القَبضِ إلزامَ المُتَبَرِّعِ بشَيءٍ لم يَتَبَرَّعْ به.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تَعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة: 91] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المُتَبَرِّعَ مُحسِنٌ، وقد مَضى ما تَبرَّع به، ولا يَلزَمُه ما لم يَتَبَرَّعْ به؛ لأنَّه لا لُزومَ على المُتَبَرِّعِ [5087] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/338)، ((العناية)) للبابرتي (1/455)، ((البناية)) للعيني (4/88). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (التَّبَرُّعُ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- القَبضُ لا بُدَّ مِنه لثُبوتِ المِلكِ في الهبةِ؛ لأنَّها عَقدُ تَبَرُّعٍ، ولا يَتِمُّ التَّبَرُّعُ إلَّا بالقَبضِ، وفي إثباتِ المِلكِ في الهبةِ قَبلَ القَبضِ إلزامُ المُتَبَرِّعِ شَيئًا لم يَتَبَرَّعْ به، وهو التَّسليمُ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ إيجابَ شَيءٍ على المُتَبَرِّعِ لم يَتَبَرَّعْ به أمرٌ مُخالِفٌ لمَوضوعِ التَّبَرُّعاتِ [5088] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/222)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/398). .
2- الصَّدَقةُ المَوقوفةُ لا تَتِمُّ إلَّا بالإخراجِ مِن يَدِه والتَّسليمِ إلى المُتَولِّي على قَولِ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ؛ لأنَّ إزالةَ المِلكِ بطَريقِ التَّبَرُّعِ، وتَمامُه بالتَّسليمِ؛ لأنَّه لو لزِمَه قَبلَ التَّسليمِ لصارَت يَدُه مُستَحَقَّةً عليه، والتَّبَرُّعُ لا يَصلُحُ سَبَبًا للاستِحقاقِ على المُتَبَرِّعِ في غَيرِ ما تَبَرَّعَ به، فيَنبَغي أن يَكونَ مُتَبَرِّعًا في إزالةِ يَدِه، كما في إزالةِ مِلكِه [5089] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/35). .
3- لا يَجوزُ تَأجيلُ دَينِ القَرضِ؛ لأنَّ القَرضَ إعارةٌ وصِلةٌ ابتِداءً؛ ولهذا يَصِحُّ بلَفظِ الإعارةِ، ولا يَملكُه مَن لا يَملكُ التَّبَرُّعَ، وهو مُعاوَضةٌ انتِهاءً؛ لأنَّ الواجِبَ بالقَرضِ رَدُّ مِثلِه. فعلى اعتِبارِ الابتِداءِ لا يَلزَمُ التَّأجيلُ فيه كالإعارةِ. وعلى اعتِبارِ الانتِهاءِ لا يَجوزُ التَّأجيلُ؛ لأنَّ الأجَلَ لو لزِمَ فيه لصارَ التَّبَرُّعُ مُلزِمًا على المُتَبَرِّعِ شَيئًا، كالكَفِّ عنِ المُطالَبةِ فيما نَحنُ فيه، وهو يُنافي مَوضوعَ التَّبَرُّعاتِ، فلا يَجوزُ [5090] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/84)، ((البناية)) للعيني (8/258)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/524). .

انظر أيضا: