المَطلَبُ الأوَّلُ: التَّبَرُّعُ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّبَرُّعُ لا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ"
[5058] يُنظر: ((درر الأحكام)) لملا خسرو (2/306)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 282). ، وصيغةِ: "التَّبَرُّعُ لا يَتِمُّ إلَّا بالأداءِ"
[5059] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/161)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/221). ، وصيغةِ: "لا يَتِمُّ التَّبَرُّعُ إلَّا بقَبضٍ"
[5060] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 22)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/57)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/524). ، وصيغةِ: "لا لُزومَ للتَّبَرُّعاتِ إلَّا بالقَبضِ"
[5061] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (5/73). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.التَّبَرُّعُ: هو إعطاءُ الشَّيءِ غَيرِ الواجِبِ إعطاؤُه؛ إحسانًا مِنَ المُعطي.
وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ مَن تَبَرَّعَ لأحَدٍ بشَيءٍ فإنَّه لا يَتِمُّ تَبَرُّعُه إلَّا بَعدَ قَبضِ المُتَبَرَّعِ له؛ إذ لو كان التَّبَرُّعُ -كالهبةِ مَثَلًا- يَتِمُّ بدونِ القَبضِ لأصبَحَ الواهِبُ حينَئِذٍ مُجبَرًا على أداءِ شَيءٍ ليس بمُجبَرٍ على أدائِه في الأصلِ، وهذا مُخالِفٌ لمَعنى التَّبَرُّعِ؛ فإنَّ عَقدَ التَّبَرُّعِ لو تَمَّ بدونِ قَبضٍ لثَبَتَ للمُتَبَرَّعِ عليه مُطالَبةُ المُتَبَرِّعِ بالتَّسليمِ، فيَصيرُ عَقدَ ضَمانٍ، وهو تَغييرٌ للمَشروعِ.
ولا فَرقَ في اشتِراطِ القَبضِ لتَمامِ التَّبَرُّعِ بَينَ ما كان تَبَرُّعًا ابتِداءً وانتِهاءً، كالهَديَّةِ والصَّدَقةِ -والفرقُ بَينَ الصَّدَقةِ والهبةِ أنَّ الهبةَ يُشتَرَطُ لها أن لا تَكونَ شائِعةً قابلةً للقِسمةِ، وفي الصَّدَقةِ لا يُشتَرَطُ ذلك إذا كانت بَينَ اثنَينِ- وبَينَ ما كان تَبَرُّعًا ابتِداءً، مُعاوضةً انتِهاءً، كالهبةِ بشَرطِ العِوَضِ والقَرضِ والرَّهنِ؛ فإنَّ القَبضَ شَرطٌ لتَمامِ جَميعِها. فإذا وُجِدَ القَبضُ مُستَوفيًا شُروطَ صِحَّتِه تَمَّت تلك العُقودُ التَّبَرُّعيَّةِ، وإلَّا فلا.
وشُروطُ صِحَّةِ القَبضِ هيَ:1- أن يَكونَ بإذنِ المالكِ صَريحًا، نَحوُ: اقبِضْه، أو أذِنتُ لك بالقَبضِ، أو رَضِيتُ، وما شاكَلَ ذلك. فيَجوزُ قَبضُه ولَو بَعدَ الافتِراقِ. أو دَلالةً، وذلك أن يَقبضَ العَينَ في المَجلسِ ولا يَنهاه، إذا كانتِ العَينُ لا تَحتاجُ إلى الفَصلِ عن غَيرِها. فلَو كانت تَحتاجُ إلى الفَصلِ عن غَيرِها، كالثَّمَرِ على الشَّجَرِ، والصُّوفِ على الغَنَمِ، ففصَلَها وقَبَضَها بدونِ إذنِه الصَّريحِ، لم يَجُزِ القَبضُ، سَواءٌ كان الفصلُ والقَبضُ بحَضرةِ المالكِ أو لا.
2- أن يَكونَ المَقبوضُ غَيرَ مَشغولٍ وَقتَ القَبضِ بغَيرِه، وإن كان شاغِلًا يَصِحُّ، كما لو وهَبَ الحملَ على الدَّابَّةِ. فلَو وهَبَ دابَّةً عليها حِملٌ، أو دارًا فيها مَتاعُ الواهِبِ، وسَلَّمها مَعَ الشَّاغِلِ: لم يَجُزِ القَبضُ، بخِلافِ مَتاعِ غَيرِ الواهِبِ؛ فإنَّه لا يَمنَعُ صِحَّةَ القَبضِ.
3- أن لا يَكونَ المَقبوضُ مُتَّصِلًا بغَيرِه اتِّصالَ الأجزاءِ؛ لأنَّه حينَئِذٍ في مَعنى المشاعُ. فلَو وهَبَ الزَّرعَ دونَ الأرضِ، أوِ الأرضَ دونَ الزَّرعِ، أوِ الثَّمَرَ دونَ الشَّجَرِ، أوِ الشَّجَرَ دونَ الثَّمَرِ، وسَلَّمَها جَميعًا: لم يَجُزِ القَبضُ.
4- أن يَكونَ المَقبوضُ مَحَلًّا للقَبضِ. فلَو وهَبَ ما في بَطنِ غَنَمِه أو ضَرعِها، أو سَمنًا في اللَّبَنِ، أو زَيتًا في زَيتونٍ، أو دَقيقًا في حِنطةٍ: لم يَجُزِ القَبضُ، وإن سَلَّطَه على قَبضِه عِندَ الوِلادةِ أو عِندَ استِخراجِ ذلك.
5- أن يَكونَ القابضُ أهلًا للقَبضِ، فلا يَجوزُ قَبضُ المَجنونِ والصَّغيرِ الذي لا يَعقِلُ.
6- أن تَكونَ هناكَ وِلايةٌ لمَن يَقبضُ بطَريقِ النِّيابةِ. فيَقبضُ للصَّغيرِ أبوه، أو وصيُّه، أو جَدُّه أبو أبيه، أو وصيُّ جَدِّه، سَواءٌ كان الصَّغيرُ في عِيالِهم أو لا، ويَجوزُ قَبضُ غَيرِ هؤلاء مَعَ وُجودِ واحِدٍ مِنهم إن كان الصَّغيرُ في عِيالِ مَن يُريدُ القَبضَ، ولَو زَوجًا لصَغيرةٍ، ولا يَجوزُ قَبضُ مَن ليس الصَّغيرُ في عِيالِه ولَو ذا رَحِمٍ مَحرَمٍ مِنه
[5062] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/57) و(2/398)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 299)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/524)، ((الرسالة الندية)) لمصيلحي (ص: 128). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.استُدِلَّ لهذه القاعِدةِ بأقوالِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم، ومِن ذلك:
1- عن أُمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت: (إنَّ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ كان نَحَلَها جادَّ عِشرينَ وسقًا (أي: قَدرَ عِشرينَ وسقًا مِمَّا يُحصَدُ ويُقطَعُ مِنَ التَّمرِ) مِن مالِه بالغابةِ. فلَمَّا حَضَرَته الوفاةُ قال: واللهِ يا بُنَيَّةُ ما مِنَ النَّاسِ أحَدٌ أحَبُّ إليَّ غِنًى بَعدي مِنك، ولا أعَزُّ عليَّ فقرًا بَعدي مِنك، وإنِّي كُنتُ نَحَلتُك جادَّ عِشرينَ وسقًا، فلَو كُنتِ جَدَدتِيه واحتَزْتِيه كان لك، وإنَّما هو اليَومَ مالُ وارِثٍ، وإنَّما هما أخَواك وأُختاك، فاقتَسِموه على كِتابِ اللهِ. قالت عائِشةُ: فقُلتُ: يا أبَتِ، واللَّهِ لو كان كَذا وكَذا لتَرَكتُه، إنَّما هيَ أسماءُ فمَنِ الأُخرى؟ فقال: ذو بَطنِ بنتِ خارِجةَ، أُراها جاريةً)
[5063] أخرجه مالك (4/1089) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (5844)، والبيهقي (12070) صححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/144)، والعيني في ((نخب الأفكار)) (14/358)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (6/61)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (8/298)، وصحح إسناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/104). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في قَولِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: (فلَو كُنتِ جَدَدتيه واحتَزْتيه كان لكِ) أي: لو كُنتِ حَصَدتيه وأصبَحَ في مِلكِكِ، لكان لكِ بَعدَ حيازَتِك له؛ لأنَّ الحيازةَ والقَبضَ شَرطٌ في تَمامِ الهبةِ.
2- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَبدٍ القاريِّ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (ما بالُ أقوامٍ يَنحَلونَ أولادَهم نِحلةً، فإذا ماتَ أحَدُهم قال: مالي في يَدي، وإذا ماتَ هو قال: قد كُنتُ نَحَلتُه وَلَدي، لا نِحلةَ إلَّا نِحلةٌ يَحوزُها الولَدُ دونَ الوالِدِ، فإن ماتَ وَرِثَهـ)
[5064] أخرجه من طرق عبدالرزاق (16509)، وابن أبي شيبة (20495)، والبيهقي (12077) واللفظ له صحح إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (6/69). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا وهَبَ شَخصٌ مالًا لآخَرَ فما لم يَقبِضْه بإذنِ الواهِبِ لا يَحِقُّ له أن يَتَصَرَّفَ بذلك المالِ، فالهِبةُ سَواءٌ كانت بلا عِوَضٍ أو كانت بشَرطِ العِوَضِ، فتَمامُها مَوقوفٌ على القَبضِ؛ إذ لو ثَبَتَتِ المِلكيَّةُ في المَوهوبِ بمُجَرَّدِ عَقدِ الِهبةِ لأصبَحَ الواهِبُ مُطالبًا بتَسليمِ المَوهوبِ، ووُجوبِ تَسليمِ شَيءٍ لم يَتَبَرَّعْ به
[5065] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/57) و(2/399). .
2- القَبضُ شَرطُ جَوازِ الصَّدَقةِ؛ لأنَّ الصَّدَقةَ كالهبةِ لا تَصِحُّ إلَّا بالقَبضِ؛ لأنَّ التَّصَدُّقَ تَبَرُّعٌ كالهبةِ
[5066] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/121)، ((الهداية)) للمرغيناني (3/228)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/264). .
3- الرَّهنُ عَقدُ تَبَرُّعٍ؛ لأنَّه لم يَستَوجِبِ الرَّهنَ بذاتِه شَيئًا، فما أعطاه الرَّاهنُ للمُرتَهِنِ غَيرُ مُقابَلٍ بشَيءٍ، ولا يَتِمُّ إلَّا بالقَبضِ، فيُشتَرَطُ فيه قَبضُ المُرتَهِنِ للرَّهنِ
[5067] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/264)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/4208). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها:
الوصيَّةُ؛ فإنَّها تَبرُّعٌ، ولا تَتَوقَّفُ على القَبضِ؛ لأنَّها تَمليكٌ مُضافٌ إلى ما بَعدَ المَوتِ، ولُزومُها للورَثةِ ناشِئٌ عن وفاةِ المورِّثِ الذي له وحدَه حَقُّ الرُّجوعِ عن تَبَرُّعِه
[5068] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/57). .
تَنبيهٌ:إذا انتَقَضَ التَّبَرُّعُ بَعدَ تَمامِه بالقَبضِ يَعودُ المالُ المُتَبَرَّعُ به إلى المُتَبَرِّعِ، فلَو تَبَرَّعَ الإنسانُ بقَضاءِ دَينِ غَيرِه، ثُمَّ ظَهَرَ أنْ لا دَينَ عليه، يَعودُ إلى مِلكِ المُتَبَرِّعِ، وكَذا لو تَبَرَّعَ بدَفعِ مَهرِ زَوجةِ غَيرِه ولَو كان ابنَه، ثُمَّ خَرَجَ كُلُّ المَهرِ عنِ المَهريَّةِ برِدَّةِ الزَّوجةِ، أو خَرَجَ نِصفُه عنِ المَهريَّةِ بطَلاقٍ قَبلَ دُخولِ الزَّوجِ بها، فإنَّه يَرجِعُ إلى مِلكِ المُتَبَرِّعِ. وكَذا لو تَبَرَّعَ بثَمَنِ المَبيعِ فانفسَخَ البَيعُ رَجَعَ بالثَّمَنِ
[5069] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 305). .