موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الرَّابعُ: الأصلُ في العُقودِ اللُّزومُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ في العُقودِ اللُّزومُ" [4896] يُنظر: ((الفروق)) (3/269)، ((الذخيرة)) (4/401) كلاهما للقرافي، ((عدة البروق)) للونشريسي (ص: 227)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/566)، ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (3/479). ، وصيغةِ: "اللُّزومُ في العُقودِ أصلٌ" [4897] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/553)، ((الإتقان والإحكام)) لميارة (2/106). ، وصيغةِ: "الأصلُ لُزومُ العَقدِ" [4898] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/507)، ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (2/716)، ((المغني)) لابن قدامة (6/42)، ((العزيز)) للرافعي (4/274)، ((الغاية)) للعز بن عبد السلام (3/263)، ((المجموع)) للنووي (9/192)، ((الفروق)) للقرافي (4/32)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/432)، ((التوضيح)) لخليل (5/481)، ((العناية)) للبابرتي (6/352). ، وصيغةِ: "الأصلُ أنَّ مُطلَقَ العَقدِ يَقتَضي اللُّزومَ" [4899] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/123). ، وصيغةِ: "الأصلُ لُزومُ العَقدِ واستِمرارُه" [4900] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (3/490)، ((المهمات)) للإسنوي (5/205). ، وصيغةِ: "الأصلُ هو لُزومُ العَقدِ وانبرامُه" [4901] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/292). ، وصيغةِ: "موجِبُ العَقدِ اللُّزومُ" [4902] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/489). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
العَقدُ اللَّازِمُ: هو ما ليس لأحَدِ عاقِديه فَسخُه دونَ رِضا الآخَرِ، كالبَيعِ والإجارةِ.
وغَيرُ اللَّازِمِ أوِ الجائِزُ: هو ما يَملِكُ كُلٌّ مِن طَرَفيه أو أحَدُهما فقَط فَسخَه دونَ رِضا الآخَرِ، إمَّا عَمَلًا بطَبيعةِ العَقدِ نَفسِه، كالوَكالةِ والإعارةِ والإيداعِ، أو لمَصلَحةِ العاقِدِ، كالعَقدِ المُشتَمِلِ على الخيارِ.
وقدِ اشتَهرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ والمالكيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ الأصلَ في العُقودِ اللُّزومُ دونَ التَّخييرِ إلَّا بشَرطٍ، وتَثبُتُ صِفةُ اللُّزومِ عِندَ الحَنَفيَّةِ والمالكيَّةِ بمُجَرَّدِ صُدورِ الإيجابِ والقَبولِ مِنَ العاقِدينَ؛ لأنَّ العُقودَ أسبابٌ لتَحصيلِ المَقاصِدِ مِنَ الأعيانِ، والأصلُ تَرتيبُ المُسَبَّباتِ على أسبابِها؛ حَيثُ إنَّ دَلالةَ العُقودِ القَوليَّةَ والفِعليَّةَ أسبابٌ لتَحصيلِ آثارِها مِنَ المِلكِ وغَيرِه، فالعَقدُ إنَّما شُرِعَ ليَحصُلَ المَقصودُ مِنَ المَعقودِ به أوِ المَعقودِ عليه، ودَفعُ الحاجاتِ يُناسِبُ ذلك اللُّزومَ؛ دَفعًا للحاجةِ وتَحصيلًا للمَقصَدِ.
ويُشتَرَطُ للُزومِ العَقدِ كالبَيعِ والإيجارِ خُلُوُّه مِن أحَدِ الخياراتِ التي تُسَوِّغُ لأحَدِ المُتَعاقِدين فسخَ العَقدِ، والتي تَثبُتُ إمَّا باشتِراطِ العاقِدِ أو بإيجابِ الشَّرعِ. فإن وُجِدَ في العَقدِ خيارٌ كَخيارِ الشَّرطِ أو خيارِ العَيبِ أوِ الرُّؤيةِ، مُنِعَ لُزومُ العَقدِ في حَقِّ مَن له الخيارُ، فكان له أن يَفسَخَ العَقدَ أو أن يَقبَلَه، إلَّا إذا حَدَثَ مانِعٌ مِن ذلك، كما سَيَتَبَيَّنُ في بَحثِ الخياراتِ. ويُسَمَّى العَقدُ المُشتَمِلُ على الخيارِ غَيرَ لازِمٍ.
ومِن هنا قَسَّم المالكيَّةُ العُقودَ إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: الأصلُ فيها اللُّزومُ، كالبَيعِ والإجارةِ والنِّكاحِ والهِبةِ والصَّدَقةِ وعُقودِ الوِلاياتِ؛ فإنَّ التَّصَرُّفَ المَقصودَ بالعَقدِ يَحصُلُ عَقِبَ العَقدِ.
والقِسمُ الثَّاني: الأصلُ فيها الجَوازُ لا اللُّزومُ، وهو ما كانت مَصلَحَتُه مَعَ الجَوازِ لا مَعَ اللُّزومِ، وهذه خَمسةُ عُقودٍ: الجَعالةُ، والقِراضُ، والمغارَسةُ، والوَكالةُ، وتَحكيمُ الحاكِمِ ما لم يَشرَعا في الحُكومةِ. والعِلَّةُ فيها: أنَّ الجَعالةَ لو جُعِلَت على اللُّزومِ لكان فيها ضَرَرٌ عَظيمٌ، فإنَّما بُنيَت على الجَهلِ، فلَوِ اطُّلِعَ على بَعدَ الشَّيءِ الضَّائِعِ لكُنَّا قد طَوَّقناه المَضَرَّةَ حينَئِذٍ. كذلك المُقارِضُ قد يَتَّصِلُ به أنَّ السِّلَعَ مُتَعَذِّرةٌ أو لا رِبحَ فيها، فلَو ألزَمناه ذلك لأضرَرنا بالعامِلِ. وكَذلك الغارِسُ قد يَطَّلعُ على تَعَذُّرِ ذلك العَمَلِ وأنَّه لا يُفيدُ فائِدةً. وكَذلك الوَكالةُ، قد يَطَّلعُ فيما وُكِّلَ عليه على تَعَذُّرٍ أو ضَرَرٍ، فجُعِلَت على الجَوازِ. وتَحكيمُ الحاكِمِ خَطَرٌ على المَحكومِ عليه، فجُعِلَت هذه على الجَوازِ لا على اللُّزومِ.
وعِندَ الشَّافِعيَّةِ والحَنابلةِ: لا يَلزَمُ العَقدُ إلَّا بتَفرُّقِ العاقِدينِ بأبدانِهما، أو إذا تَخايَرا فاختارا لُزومَه، بأن يَفتَرِقا بَعد تَبايُعِهما عن مَقامِهما الذي تَبايَعا فيه على التَّراضي بالبَيعِ [4903] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/13)، ((المغني)) لابن قدامة (6/10)، ((الفروق)) (3/269)، ((الذخيرة)) (5/20) كلاهما للقرافي، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (2/161)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/566)، ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (3/479)، ((مقاصد الشريعة الإسلامية)) (3/474)، ((كشف المغطى)) (ص: 285) كلاهما لابن عاشور، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3083، 3094). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الأصلُ حَملُ العُقودِ على الصِّحَّةِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ صِحَّةَ العَقدِ بتَوافُرِ أركانِه وشُروطِه يَتَرَتَّبُ عليها لُزومُ العَقدِ، فكان الأصلُ في العُقودِ اللُّزومَ؛ لأنَّ الأصلَ تَرَتُّبُ الأحكامِ على أسبابِها.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تَعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الأمرَ للوُجوبِ المُنافي للخيارِ، فتَدُلُّ الآيةُ على أنَّ الأصلَ في العُقودِ الماليَّةِ اللُّزومُ دونَ التَّخييرِ إلَّا بشَرطٍ؛ لأنَّ ظاهرَ الآيةِ يَقتَضي إلزامَ كُلِّ عاقِدٍ مُوجِبَ عَقدِه ومُقتَضاه [4904] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/475)، ((الفروق)) للقرافي (3/272)، ((مقاصد الشريعة الإسلامية)) لابن عاشور (3/474)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3094). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا تَبايَعَ الرَّجُلانِ فكُلُّ واحِدٍ مِنهما بالخيارِ ما لم يَتَفرَّقا، وكانا جَميعًا، أو يُخَيِّرُ أحَدُهما الآخَرَ، فتَبايَعا على ذلك، فقد وجَبَ البَيعُ، وإن تَفرَّقا بَعدَ أن يَتَبايَعا، ولَم يَترُكْ واحِدٌ مِنهما البَيعَ، فقد وجَبَ البَيعُ)) [4905] أخرجه البخاري (2112) واللفظ له، ومسلم (1531). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: ((فقد وجَبَ البَيعُ)) أي: لزِمَ، بَعدَ أن تَبايَعا، فإنِ اختارا إمضاءَ البَيعِ قَبلَ التَّفرُّقِ لزِمَ البَيعُ حينَئِذٍ وبَطَلَ اعتِبارُ التَّفرُّقِ [4906] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/333)، ((منحة الباري)) لزكريا الأنصاري (4/538). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الأصلُ حَملُ العُقودِ على الصِّحَّةِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا وُجِدَ بالمَبيعِ عَيبٌ فقال البائِعُ: حَدَثَ عِندَ المُشتَري، وقال المُشتَري: بَل كان عِندَك- نُظِرَ، إن كان العَيبُ مِمَّا لا يُمكِنُ حُدوثُه بَعدَ البَيعِ كالشَّجَّةِ المُندَمِلةِ، وقد جَرى البَيعُ أمسِ، فالقَولُ قَولُ المُشتَري. وإن لم يَحتَمِلْ تَقدُّمُه، كَجِراحةٍ طَريَّةٍ، وقد جَرى البَيعُ والقَبضُ مِن سَنةٍ، فالقَولُ قَولُ البائِعِ مِن غَيرِ يَمينٍ. وإنِ احتَمَلَ قِدَمَه وحُدوثَه كالمَرَضِ، فالقَولُ قَولُ البائِعِ؛ لأنَّ الأصلَ لُزومُ العَقدِ واستِمرارُه [4907] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (3/490). .
2- يُشتَرَطُ لثُبوتِ خيارِ الرُّؤيةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ: عَدَمُ رُؤيةِ المَبيعِ، فإنِ اشتَرى المَبيعَ وهو يَراه فلا خيارَ له؛ لأنَّ الأصلَ لُزومُ العَقدِ وانبرامُه [4908] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/292)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (6/339). .
3- لم يُشرَعِ الخيارُ في عَقدِ النِّكاحِ ابتِداءً، وشُرِع في البَيعِ؛ لأنَّ حِكمةَ الخيارِ استِدراكُ المَصلَحةِ الفائِتةِ حالَ العَقدِ، والنِّكاحُ إنَّما يَقَعُ بَعدَ الفحصِ، والأصلُ في العُقودِ اللُّزومُ، ولأنَّ الخيارَ في النِّكاحِ يُؤَدِّي إلى ابتِذالِ النِّساءِ مِن ذَواتِ الخُدورِ وذَواتِ الأعيانِ بَينَ القَبولِ والرَّدِّ بالكَشفِ عنهنَّ ثُمَّ رَدِّهنَّ؛ ولذلك أوجَبَ الشَّرعُ لهنَّ نِصفَ الصَّداقِ قَبلَ الدُّخولِ؛ جَبرًا لكَسرِ الرَّدِّ [4909] يُنظر: ((عدة البروق)) للونشريسي (ص: 227). .

انظر أيضا: