الفَرعُ الأوَّلُ: العُقودُ تَصِحُّ بكُلِّ ما دَلَّ على مَقصودِها مِن قَولٍ أو فِعلٍ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العُقودُ تَصِحُّ بكُلِّ ما دَلَّ على مَقصودِها مِن قَولٍ أو فِعلٍ"
[4823] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/13)، ((القواعد النورانية)) (ص: 153) كلاهما لابن تيمية، ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) لرشيد رضا (5/756)، ((الدرر السنية)) لابن قاسم (7/15)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/827). ، وصيغةِ: "العُقودُ تَنعَقِدُ بما يَدُلُّ على مَقصودِها مِن قَولٍ وفِعلٍ"
[4824] يُنظر: ((تنقيح التحقيق)) لابن عبد الهادي (4/336)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/267)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/215). ، وصيغةِ: "تَنعَقِدُ العُقودُ بكُلِّ ما دَلَّ على مَقصودِها مِن قَولٍ أو فِعلٍ"
[4825] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/827). ، وصيغةِ: "كُلُّ لفظٍ دَلَّ على قَصدِ المُتَكَلِّمِ في المُعامَلاتِ وغَيرها مُعتَبَرٌ"
[4826] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/827). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ كُلَّ ما اعتادَه النَّاسُ مِنَ المُصطَلَحاتِ في ألفاظِ العُقودِ -كالبَيعِ والشِّراءِ والاستِئجارِ وغَيرِها مِن أنواعِ المُعامَلاتِ- يَصِحُّ العَقدُ بها، ولا يُشتَرَطُ فيها لفظٌ مُعَيَّنٌ؛ لأنَّ هذا مِنَ العاداتِ، والأصلُ في العاداتِ عَدَمُ التَّحريمِ، وكُلُّ لفظٍ دَلَّ على قَصدِ المُتَكَلِّمِ في المُعامَلاتِ وغَيرِها فهو مُعتَبَرٌ، وتَصِحُّ العُقودُ بكُلِّ ما دَلَّ على مَقصودِها مِن قَولٍ أو فِعلٍ، فكُلُّ ما عَدَّه النَّاسُ بَيعًا وإجارةً فهو بَيعٌ وإجارةٌ، وكَذا الهبةُ، وتَجهيزُ الزَّوجةِ، والرُّكوبُ في السُّفُنِ وعلى الدَّوابِّ، والدَّفعُ إلى غَسَّالٍ أو خَيَّاطٍ يَعمَلُ بالأُجرةِ، أوِ الدَّفعُ لطَبَّاخٍ أو شِواءٍ ليَطبُخَ أو يَشويَ، فيَصِحُّ، ولا يَجِبُ على النَّاسِ التِزامُ نَوعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الاصطِلاحاتِ، ولا يَحرُمُ عليهمُ التَّعاقُدُ بغَيرِ ما يَتَعاقدُ به غَيرُه، إذا كان ما يَتَعاقدونَ به دالًّا على مَقصودِهم، وما لم تَحُدَّ الشَّريعةُ في ذلك حَدًّا، فيَبقَونَ فيه على الإطلاقِ الأصليِّ، أمَّا التِزامُ لفظٍ مَخصوصٍ فلَيسَ فيه أثَرٌ ولا نَظَرٌ يَدُلُّ عليه
[4827] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/13، 20)، ((الدرر السنية)) لابن قاسم (7/14). ويُنظر أيضًا: ((الموافقات)) للشاطبي (2/520)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/814 و827)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (1/431). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (العِبرةُ في العُقودِ للمَقاصِدِ والمَعاني لا للألفاظِ والمَباني)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العُقودَ تَدُلُّ بما يَدُلُّ على مَقصودِها مِن قَولٍ أو فِعلٍ؛ لأنَّ هذا هو المُعتَبَرُ في العُقودِ والعاداتِ؛ إذِ العِبرةُ فيها للمَقاصِدِ والمَعاني لا للألفاظِ والمَباني.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:يُستَدَلُّ بكَثيرٍ مِنَ الآياتِ التي ورَدَ فيها ذِكرُ العُقودِ، فقد قال اللهُ تَعالى:
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء: 3] ، وقال:
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور: 32] ، وقال:
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] ، وقال:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء: 4] ، وقال:
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] ، وقال:
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ المَشروعِ فيها هذه العُقودُ.
وَجهُ الدَّلالةِ:الدَّلالةُ فيها مِن وُجوهٍ:
1- أنَّه اكتَفى بالتَّراضي في البَيعِ في قَولِه:
إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارةً عن تَراضٍ مِنكُمْ وبطِيبِ النَّفسِ في التَّبَرُّعِ في قَولِه:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، فتلك الآيةُ في جِنسِ المُعاوَضاتِ، وهذه الآيةُ في جِنسِ التَّبَرُّعاتِ، ولَم يَشتَرِطْ لفظًا مُعيَّنًا ولا فِعلًا مُعَيَّنًا يَدُلُّ على التَّراضي وعلى طِيبِ النَّفسِ، ونَحنُ نَعلَمُ بالاضطِرارِ مِن عاداتِ النَّاسِ في أقوالِهم وأفعالِهم أنَّهم يَعلَمونَ التَّراضيَ وطِيبَ النَّفسِ بطُرُقٍ مُتَعَدِّدةٍ. والعِلمُ به ضَروريٌّ في غالبِ ما يُعتادُ مِنَ العُقودِ، وهو ظاهرٌ في بَعضِها، وإذا وُجِدَ تعَلَّقَ الحُكمُ بهما بدَلالةِ القُرآنِ.
2- أنَّ هذه الأسماءَ جاءَت في كِتابِ اللهِ تَعالى وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم مُعَلَّقًا بها أحكامٌ شَرعيَّةٌ، وكُلُّ اسمٍ فلا بُدَّ له مِن حَدٍّ، فمِنه ما يُعلَمُ حَدُّه باللُّغةِ، كالشَّمسِ والقَمَرِ والبَرِّ والبَحرِ والسَّماءِ والأرضِ، ومِنه ما يُعلَمُ بالشَّرعِ، كالمُؤمِنِ والكافِر والمُنافِقِ، وكالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ. وما لم يَكُنْ له حَدٌّ في اللُّغةِ ولا في الشَّرعِ فالمَرجِعُ فيه إلى عُرفِ النَّاس، كالقَبضِ المَذكورِ في قَولِه صلَّى الله عليه وسلَّم:
((مَنِ ابتاعَ طَعامًا فلا يَبِعْه حَتَّى يَقبِضَه )) [4828] أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (1525) مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما. . ومَعلومٌ أنَّ البَيعَ والإجارةَ والهِبةَ ونَحوَها لم يَحُدَّ الشَّارِعُ لها حَدَّا؛ لا في كِتابِ اللهِ ولا سُنَّةِ رَسولِه، ولا نُقِلَ عن أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ أنَّه عَيَّنَ للعُقودِ صِفةً مُعيَّنةً مِنَ الألفاظِ أو غَيرِها، أو قال ما يَدُلُّ على ذلك مِن أنَّها لا تَنعَقِدُ إلَّا بالصِّيَغِ الخاصَّةِ، وليس لذلك حَدٌّ في لُغةِ العَرَبِ، فإذا لم يَكُنْ له حَدٌّ في الشَّرعِ ولا في اللُّغةِ كان المَرجِعُ فيه إلى عُرفِ النَّاسِ وعاداتِهم. فما سَمَّوه بَيعًا فهو بَيعٌ، وما سَمَّوه هبةً فهو هِبةٌ
[4829] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/14)، ((القواعد النورانية)) (ص: 160) كلاهما لابن تيمية، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/828). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:مَن تَتبَّعُ ما ورَدَ عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن أنواعِ المُبايَعاتِ والمُؤاجَراتِ والتَّبَرُّعاتِ عَلِمَ ضَرورةً أنَّه لم يَكُنْ يَلتَزِمُ الصِّيغةَ مِنَ الطَّرَفينِ، ومِن ذلك
[4830] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/18). :
- أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بَنى مَسجِدَه والمُسلمونَ بَنَوا المَساجِدَ على عَهدِه وبَعدَ مَوتِه ولَم يَأمُرْ أحَدًا أن يَقولَ: وقَفتُ هذا المَسجِدَ ولا ما يُشبِهُ هذا اللَّفظَ، بَل قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((مَن بَنى مَسجِدًا للهِ بَنى اللهُ له بَيتًا في الجَنَّةِ)) [4831] أخرَجَه مُسلم (533) ولَفظُه: عَن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ، سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن بَنى مَسجِدًا للَّهِ بَنى اللهُ له في الجَنَّةِ مِثلَهـ)) وفي رِوايةٍ: ((بَنى اللهُ له بَيتًا في الجَنَّةِ)). ، فعَلَّقَ الحُكمَ بنَفسِ بنائِه.
- ولمَّا اشتَرى الجَمَلَ مِن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ قال:
((هو لك يا عَبدَ اللهِ)) [4832] أخرَجَه البُخاريُّ (2610) ولَفظُه: عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه كان مَعَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في سَفرٍ، فكان على بَكرٍ لعُمَرَ صَعبٍ، فكان يَتَقدَّمُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيَقولُ أبوه: يا عَبدَ اللهِ، لا يَتَقدَّمُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحَدٌ، فقال له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: بِعْنيه، فقال عُمَرُ: هو لكَ، فاشتَراه، ثُمَّ قال: هو لكَ يا عَبدَ اللهِ، فاصنَعْ به ما شِئتَ ، ولَم يَصدُرْ مِنِ ابنِ عُمَرَ لفظُ قَبولٍ.
- وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَهدي ويُهدى له، فيَكونُ قَبضُ الهَديَّةِ قَبولَها، وكان يُسألُ فيُعطي أو يُعطي مِن غَيرِ سُؤالٍ، فيَقبضُ المُعطى. ويَكونُ الإعطاءُ هو الإيجابَ، والأخذُ هو القَبولَ في قَضايا كَثيرةٍ جِدًّا، ولَم يَكُنْ يَأمُرُ الآخِذينَ بلَفظٍ ولا يَلتَزِمُ أن يَتَلَفَّظَ لهم بصيغةٍ.
3- مِنَ إجماعِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ:مَن تَتَبَّعَ ما ورَدَ عنِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ مِن أنواعِ المُبايَعاتِ والمُؤاجَراتِ والتَّبَرُّعاتِ عَلِمَ ضَرورةً أنَّهم لم يَكونوا يَلتَزِمونَ الصِّيغةَ مِنَ الطَّرَفينِ، ولَم يُنقَلْ عن أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ أنَّه عَيَّنَ للعُقودِ صِفةً مُعيَّنةً مِنَ الألفاظِ أو غَيرِها، أو قال ما يَدُلُّ على ذلك مِن أنَّها لا تَنعَقِدُ إلَّا بالصِّيَغِ، بَل قد قيلَ: إنَّ هذا القَولَ يُخالفُ الإجماعَ القديمَ
[4833] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/18)، ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) لرشيد رضا (5/756). .
4- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لها بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العِبرةُ في العُقودِ للمَقاصِدِ والمَعاني لا للألفاظِ والمَباني).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يَنعَقِدُ البَيعُ بكُلِّ لفظٍ دَلَّ عليه عُرفًا بإيجابٍ، وقَبولٍ بَعدَه، فيَنعَقِدُ بلَفظِ الأمرِ، وبكُلِّ لفظٍ دَلَّ على حُصول الرِّضا مِنَ الطَّرَفينِ، وعَبَّرَ عن إرادَتِهما، كما أنَّ إظهارَ الصِّفاتِ في المَبيعِ وغَيرِه بالأفعالِ بمَنزِلةِ إظهارِها بالأقوالِ، ويَلزَمُ العَقدُ بناءً على هذه الصِّفاتِ، وإذا كان العاقِدُ صَرَّحَ بهذه الصِّفاتِ، واشتَرَطَها في المَبيعِ، فإذا فاتَت على أحَدِ المُتَعاقِدين كان له الحَقُّ في الرُّجوعِ على مَن غَرَّه ودَلَّسَ عليه بإظهارِ صِفاتٍ ليسَت حَقيقيَّةً، كَمَنِ اشتَرى شاةً كَبيرةَ الضَّرعِ، ثُمَّ تبَيَّن أنَّها ليسَت حَلوبًا، أو تَحلُبُ القَليلَ؛ لأنَّ البائِعَ رَبَطَ ثَدْيَها ليُدَلِّسَ بها
[4834] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/102)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/828)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (1/327). .
2- لا تَصِحُّ الوَكالةُ إلَّا بالإيجابِ والقَبولِ؛ لأنَّه عَقدٌ تَعَلَّقَ به حَقُّ كُلِ واحِدٍ مِنهما، فافتَقَرَ إلى الإيجابِ والقَبولِ، كالبَيعِ، ويَجوزُ الإيجابُ في الوَكالةِ بكُلِّ لفظٍ دَلَّ على الإذنِ، نَحوُ أن يَأمُرَه بفِعلِ شَيءٍ، أو يَقولَ: أذِنتُ لك في فِعلِه؛ لأنَّه لفظٌ دالٌّ على الإذنِ، فجَرى مَجرى قَولِه: وكَّلتُك. ويَجوزُ القَبولُ بكُلِّ قَولٍ أو فِعلٍ دَلَّ عليه، نَحوُ أن يَفعَلَ ما أمَرَه بفِعلِه
[4835] يُنظر: ((المغني)) (7/203)، ((الكافي)) (2/138) كلاهما لابن قدامة. .
ويَنعَزِلُ الوكيلُ بعَزلِه بكُلِّ لفظٍ دَلَّ على العَزلِ، كَقَولِ الموكِّلِ: فسَختُ الوَكالةَ، أو أبطَلتُ الوَكالةَ، أو نَقَضتُ الوَكالةَ، أو قَولِه: صَرَفتُك عنها، أي الوَكالةِ، أو يَنهاه الموكِّلُ عن فِعلِ ما أُمِرَ به
[4836] يُنظر: ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/458). .
3- إذا وقَف إنسانٌ وقفًا وأشهَدَ عليه، وكَتَبَ به، والشَّاهِدُ والكاتِبُ يَعرِفانِ مَعنى ما نَطَقَ به مِن لُغَتِه وعُرفِه، فكَتَبَ الكاتِبُ خِلافَ ما نَطَقَ به الواقِفُ وأرادَه؛ ظَنًّا مِنه أنَّ المَعنى واحِدٌ، كما إذا قال: على أولادي وأولادِهم، وهما عالِمانِ مِنه إرادةَ التَّعقيبِ دونَ التَّشريكِ، فإنَّه يَتَعَيَّنُ العَمَلُ بما شَهِدا عليه مِن لفظِ لُغَتِه، وعَلِماه مِن إرادَتِه، وإنَّما يُحكَمُ على العامَّةِ في هذا ونَظائِرِه بما تَقتَضيه لُغاتُهم، ويَدُلُّ عليه عُرفُهم، وإن عَدَلوا عنِ الصِّيَغِ الاصطِلاحيَّةِ عِندَ الفُقَهاءِ؛ لكَونِ العُقودِ بالمَقصودِ، فتَصِحُّ بكُلِّ ما دَلَّ على مَقصودِها مِن قَولٍ أو فِعلٍ
[4837] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) لرشيد رضا (5/755). .
4- تَصِحُّ البَراءةُ مِنَ الدَّينِ بكُلِّ لفظٍ دَلَّ على البَراءةِ، كلَفظِ إحلالٍ، أو صَدَقةٍ، أو إسقاطٍ، أو تَركٍ، أو عَفوٍ، ونَحوِه، ولَو كان قَبلَ حُلولِ الدَّينِ
[4838] يُنظر: ((هداية الراغب)) لابن قائد (3/109). .
5- يُرجَعُ في نِكاحِ الكُفَّارِ إلى عادَتِهم، فما اعتَقَدوه نِكاحًا بَينَهم جاز إقرارُهم عليه إذا أسلَموا وتَحاكَموا إلينا إذا لم يَكُنْ حينَئِذٍ مُشتَمِلًا على مانِعٍ، وإن كانوا يَعتَقِدونَ أنَّه ليس بنِكاحٍ لم يَجُزِ الإقرارُ عليه؛ لأنَّ كَونَ القَولِ أوِ الفِعلِ يَدُلُّ على مَقصودِ العَقدِ لا يَختَصُّ به المُسلمُ دونَ الكافِرِ، وإنَّما اختَصَّ المُسلمُ بأنَّ اللَّهَ أمَرَ في النِّكاحِ بأن يُمَيَّزَ عنِ السِّفاحِ
[4839] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/12). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تَنبيهٌ:إذا تَقَرَّرَت هذه القاعِدةُ، وأنَّ الغالبَ في العاداتِ الالتِفاتُ إلى المَعاني، فإذا وُجِدَ فيها التَّعَبُّدُ فلا بُدَّ مِنَ التَّسليمِ والوُقوفِ مَعَ المَنصوصِ؛ لأنَّ التَّعبُّديَّاتِ عِلَّتُها مُجَرَّدُ الانقيادِ مِن غَيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ، وذلك كَطَلَبِ الصَّداقِ في النِّكاحِ، والذَّبحِ في المَحَلِّ المَخصوصِ في الحَيَوانِ المَأكولِ، والفُروضِ المُقدَّرةِ في المَواريثِ، وعَدَدِ الأشهُرِ في عِدَدِ الطَّلاقِ، وما أشبَهَ ذلك مِنَ الأُمورِ، فإنَّا نَعلَمُ أنَّ الشُّروطَ المُعتَبَرةَ في النِّكاحِ مِنَ الوَليِّ والصَّداقِ وشِبهِ ذلك لتَمييزِ النِّكاحِ عنِ السِّفاحِ، وأنَّ فُروضَ المَواريثِ تَرَتَّبَت على تَرتيبِ القُربى مِنَ المَيِّتِ، وأنَّ العِدَدَ والاستبراءاتِ المُرادُ بها استِبراءُ الرَّحِمِ خَوفًا مِنِ اختِلاطِ المياهِ، كما أنَّ الخُضوعَ والتَّعظيمَ والإجلالَ عِلَّةُ شَرعِ العِباداتِ، وهذا المِقدارُ لا يَقضي بصِحَّةِ القياسِ على الأصلِ فيها، بحَيثُ يُقالُ: إذا حَصَلَ الفرقُ بَينَ النِّكاحِ والسِّفاحِ بأُمورٍ أخَرَ مَثَلًا لم تُشتَرَطْ تلك الشُّروطُ، ومتى عُلِم بَراءةُ الرَّحِمِ لم تُشرَعِ العِدَّةُ بالأقراءِ ولا بالأشهُرِ، ولا ما أشبَهَ ذلك
[4840] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/525)، ((الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية)) لعابد السفياني (ص: 509). .