موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: المَنافِعُ تُملَكُ كالأعيانِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَنافِعُ تُملَكُ كالأعيانِ" [4749] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/233)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/ 339)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 316). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ قابلةٌ للمِلكِ كالأعيانِ" [4750] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/218)، ((العناية)) للبابرتي (9/4). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ كالأعيانِ في المِلكِ والعَقدِ عليها" [4751] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/ 194). ، وصيغةِ: "المنافِعُ ‌كالأعيانِ" [4752] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/ 409)، ((التهذيب)) للبغوي (4/ 288). ، وصيغةِ: "‌المنافِعُ ‌كالأعيانِ القائِمةِ" [4753] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/ 132). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
المَنافِعُ وهيَ الحُقوقُ التي تَنتُجُ عَنِ الأعيانِ مِثلُ السُّكنى في المَنزِلِ، أوِ استِخدامِ السَّيَّارةِ، يُمكِنُ أن تُملَكَ شَرعًا بنَفسِ الطَّريقةِ التي تُملَكُ بها الأعيانُ المادِّيَّةُ، فالمَنافِعُ تُعتَبَرُ مالًا مُعتَبَرًا يُمكِنُ التَّصَرُّفُ فيه بالبَيعِ أوِ الإجارةِ أوِ الهبةِ، كما هو الحالُ مَعَ الأعيانِ، فالمَنافِعُ تُعامَلُ مُعامَلةَ الأعيانِ مِن حَيثُ المِلكيَّةُ، أي أنَّ المَنفعةَ التي تَصدُرُ عَنِ العَينِ المَملوكةِ تُعتَبَرُ حَقًّا ماليًّا شَرعيًّا يُمكِنُ بَيعُه أو تَأجيرُه أوِ التَّعاقُدُ عليه [4754] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (٣/٢١٨)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (١/٢٣٣)، ((العناية)) للبابرتي (٩/٤). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ على أنَّ المَنافِعَ كالأعيانِ بالقرآنِ والقياسِ والمعقولِ:
1- مِنَ القرآنِ:
أنَّ الشَّريعةَ أنزَلَتِ المَنافِعَ في مَواطِنَ كَثيرةٍ مَنزِلةَ الأعيانِ كما في الأُجرةِ والصَّداقِ وغَيرِهما، ومِن ذلك:
- قَولُ اللهِ تَعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] فالإرضاعُ مَنفعةٌ، وتَستَحِقُّ المُرضِعُ الأُجرةَ بها، فنُزِّلَت مَنزِلةَ الأعيانِ التي تُملَكُ.
- وقال اللهُ سبحانه: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص: 26 - 27] ، فجعل المَنفعةَ مَهرًا [4755] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (7/ 286). .
2- مِنَ القياسِ:
وقد نَصَّ على القياسِ جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ ونَفوا الفارِقَ بَينَهما، مِنهم: ابنُ رُشدٍ، قال: (فالقياسُ أن تَجريَ المَنافِعُ والأعيانُ المُتَولِّدةُ مَجرًى واحِدًا) [4756] ((بداية المجتهد)) (4/ 106). .
وقال القَرافيُّ: (المَنافِعُ والأعيانُ سَواءٌ في جَوازِ العَقدِ عليهما في البَيعِ والإجارةِ) [4757] ((الذخيرة)) للقرافي (8/ 34). .
وقال خَليلُ بنُ إسحاقَ: (ولا فرقَ بَينَ بَيعِ المَنافِعِ والأعيانِ) [4758] ((التوضيح)) (7/ 139). ، ومِثلُه الشِّربينيُّ [4759] يُنظر: ((مغني المحتاج)) (6/ 220). .
3- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ النَّاظِرَ في مَقصودِ تَمَلُّكِ الأعيانِ والتَّصَرُّفِ فيها يَعلَمُ أنَّ ذلك إنَّما هو لمَنافِعِها التي تُرتَجى مِنها، كما يَتَمَلَّكُ سَيَّارةً لمَنفعةِ الرُّكوبِ، وبَيتًا لمَنفعةِ السُّكنى، وقد عَبَّرَ عَن هذا المَعنى ابنُ أبي العِزِّ بقَولِه: (المَقصودُ إنَّما هو المَنافِعُ، والأعيانُ قَوالبُ لها) [4760] ((التنبيه على مشكلات الهداية)) (5/ 955). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- تَصِحُّ الوصيَّةُ بسُكنى دارِه سِنينَ مَعلومةً؛ لأنَّ المَنافِعَ يَصِحُّ تَمليكُها في حالةِ الحَياةِ ببَدَلٍ وغَيرِ بَدَلٍ، فكَذا بَعدَ المَماتِ، ويَكونُ مَحبوسًا على مِلكِه في حَقِّ المَنفعةِ حَتَّى يَتَمَلَّكَها الموصى له على مِلكِه [4761] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/533،532)، ((الاختيار)) لابن مودود الموصلي (5/70). .
2- تَصِحُّ العاريَّةُ بلَفظِ التَّمليكِ عِندَ الحَنَفيَّةِ بأن يَقولَ: مَلَّكتُكَ مَنفعةَ داري هذه شَهرًا؛ لأنَّ المَنافِعَ قابلةٌ للمِلكِ كالأعيانِ [4762] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (9/4). .
خامسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استثناءاتٌ:
يُفرَّقُ بَينَ المَنافِعِ والأعيانِ في بَعضِ المَسائِلِ، منها:
1- حالةُ العَقدِ على المَنفعةِ أوِ العَينِ أثناءَ وُجودِهما:
قال ابنُ القَيِّمِ: (فإن قِستُم بَيعَ المَنافِعِ على بَيعِ الأعيانِ، فهذا قياسٌ في غايةِ الفسادِ؛ فإنَّ المَنافِعَ لا يُمكِنُ أن يُعقدَ عليها في حالِ وُجودِها البَتَّةَ، بخِلافِ الأعيانِ. وقد فرَّقَ بَينَها الحِسُّ والشَّرعُ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ أن يُؤَخَّرَ العَقدُ على الأعيانِ التي لَم تُخلَقْ إلى أن تُخلَقَ، كما نَهى عَن بَيعِ السِّنينَ، وحَبَلِ الحَبَلةِ، والثَّمَرِ قَبلَ أن يَبدوَ صَلاحُه، والحَبِّ حَتَّى يَشتَدَّ، ونَهى عَنِ المَلاقيحِ والمَضامينِ، ونَحوِ ذلك. وهذا يَمتَنِعُ مِثلُه في المَنافِعِ؛ فإنَّه لا يُمكِنُ أن تُباعَ إلَّا في حالِ عَدَمِها) [4763] ((إعلام الموقعين)) (2/ 268). .
2- الرَّهنُ:
فلا يُرهَنُ إلَّا ما يَصِحُّ بَيعُه مِنَ الأعيانِ دونَ المَنافِعِ [4764] يُنظر: ((حاشية ابن قائد على منتهى الإرادات)) (2/ 403). .

انظر أيضا: