الفرعُ الثَّاني: مَن حَرُمَ عليه الامتِناعُ مِن بَذلِ شَيءٍ سُئِلَه فامتَنَعَ، فهَل يَسقُطُ إذنُه بالكُلِّيَّةِ، أو يُعتَبَرُ ويُجبرُه الحاكِمُ عليه؟
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "مَن حَرُمَ عليه الامتِناعُ مِن بَذلِ شَيءٍ سُئِلَه فامتَنَعَ؛ هَل يَسقُطُ إذنُه بالكُلِّيَّةِ، أو يُعتَبَرُ ويُجبرُه الحاكِمُ عليه؟"
[4560] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/173). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.إذا امتَنَعَ شَخصٌ عَن أداءِ واجِبٍ شَرعيٍّ تَعَلَّقَ به، هَل يُعتَبَرُ امتِناعُه عَن أداءِ ما لَزِمَه مُسقِطًا لحَقِّه في الإذنِ فيُؤخَذُ الحَقُّ مِنه بدونِ إذنِه، أو لا يَسقُطُ حَقُّه في الإذنِ وعَلى الحاكِمِ أن يُجبرَه على أداءِ ما وجَبَ عليه؟ خِلافٌ بَينَ العُلَماءِ في صورِ هذه القاعِدةِ.
وقد قَسَّمَها ابنُ رَجَبٍ إلى قِسمَينِ: أحَدُهما: أن يَكونَ المَطلوبُ مِنه إذنًا مُجَرَّدًا، والثَّاني: أن يَكونَ المَطلوبُ مِنه تَصَرُّفًا بعَقدٍ أو فسخٍ أو غَيرِهما، والخِلافُ جارٍ في الصُّورِ المُندَرِجةِ تَحتَ كِلا النَّوعَينِ
[4561] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/173). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ:
فعَن عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: قُلنا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّكَ تَبعَثُنا، فنَنزِلُ بقَومٍ لا يَقرونا
[4562] أي لا يضيِّفوننا. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (10/ 73). ، فما تَرى فيه؟ فقال لَنا:
((إن نَزَلتُم بقَومٍ، فأمَروا لَكُم بما يَنبَغي للضَّيفِ فاقبَلوا، فإن لَم يَفعَلوا فخُذوا مِنهم حَقَّ الضَّيفِ )) [4563] أخرجه البخاري (2461) واللفظ له، ومسلم (1727). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أباحَ لَهم أخذَ حَقِّهم مِنَ الضِّيافةِ الواجِبةِ إذا لَم يُبذَلْ لَهم وقدَروا على أخذِه
[4564] يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (2/413)، ((المغني)) لابن قدامة (13/354). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا احتاجَ إلى وضعِ الخَشَبِ على جِدارِ جارِه ولَم يَضُرَّ به، وامتَنَعَ جارُه عَن أن يَضَعَ، فقد نَصَّ أحمَدُ على عَدَمِ اعتِبارِ إذنِه في ذلك
[4565] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/158)، ((القواعد)) لابن رجب (1/173)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (8/314). .
2- الطَّعامُ الذي يُضطَرُّ إلَيه غَيرُه إن لَم يَكُنْ صاحِبُه مُضطَرًّا إلَيه فيَلزَمُه بَذلُه بقيمَتِه، فإن أبى فللمُضطَرِّ أخذُه قَهرًا ويُعطيه قيمَتَه، وإنَّما سَقَطَ اعتِبارُ الإذنِ؛ لأنَّ اعتِبارَه يُؤَدِّي إلى مَشَقَّةٍ وحَرَجٍ، ورُبَّما أفضى إلى فواتِ النَّفسِ بالكُلِّيَّةِ، ولأنَّه يَتَعَلَّقُ به إحياءُ نَفسِ آدَميٍّ مَعصومٍ، فلَزِمَه بَذلُه، كما يَلزَمُه بَذلُ مَنافِعِه في إنجائِه مِنَ الغَرَقِ مَثَلًا، فإن لَم يَفعَلْ فللمُضطَرِّ أخذُه مِنه؛ لأنَّه يَستَحِقُّه دونَ مالكِه، فجازَ له أخذُه
[4566] يُنظر: ((المقنع)) لابن قدامة (ص: 452)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (27/248)، ((القواعد)) لابن رجب (1/176). .
3- إذا امتَنَعَ مِن بَيعِ الرَّهنِ؛ فإنَّ الحاكِمَ يُجبرُه عليه ويَحبسُه، فإن أصَرَّ باعَ عليه. وقيلَ: الحاكِمُ مُخَيَّرٌ؛ إن شاءَ أجبَرَه على البَيعِ، وإن شاءَ باعَ عليه
[4567] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/177). .
4 - الوليُّ في النِّكاحِ إذا امتَنَعَ مِنَ التَّزويجِ، فهَل يَسقُطُ حَقُّه ويَنتَقِلُ إلى غَيرِه مِمَّن هو أبعَدُ مِنه، أو لا فيَقومُ الحاكِمُ مَقامَه؟ على رِوايَتَينِ عِندَ الحَنابلةِ
[4568] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/180). .
خامسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ. قيودٌ:1- يُقَيَّدُ سَبَبُ استِحقاقِ هذا الحَقِّ بأن يَكونَ ظاهرًا لا خَفيًّا؛ لأنَّه لَو كان سَبَبُ الاستِحقاقِ خَفيًّا لا يَعلَمُه النَّاسُ لَأمكَنَ نِسبةُ الآخِذِ لحَقِّه إلى الخيانةِ أوِ السَّرِقةِ
[4569] يُنظر: ((القواعد والأصول الجامعة)) للسعدي (ص: 178). .
2- يُقَيَّدُ بالأموالِ وليس بغَيرِها مِنَ العُقوباتِ البَدَنيَّةِ:
قال ابنُ حَجَرٍ: (اتَّفقوا على أنَّ مَحَلَّ الجَوازِ في الأموالِ لا في العُقوباتِ البَدَنيَّةِ؛ لكَثرةِ الغَوائِلِ في ذلك، ومَحَلُّ الجَوازِ في الأموالِ أيضًا ما إذا أَمِنَ الغائِلةَ، كَنِسبَتِه إلى السَّرِقةِ ونَحوِ ذلك)
[4570] ((فتح الباري)) (5/ 109). .