المَطلَبُ الأوَّلُ: إحياءُ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إحياءُ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ"
[3460] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/240)، ((لسان الحكام)) لابن الشحنة (ص: 248). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. إحياءُ الحُقوقِ وعَدَمُ تَضييعِها واجِبٌ بقَدرِ الإمكانِ، فمَن رَأى حَقًّا يُعمَلُ بخِلافِه، وعِندَه قُدرةٌ على إحياءِ الحَقِّ وجَبَ عليه ذلك؛ ولِذا يُنَصَّبُ القاضي؛ لضَرورةِ فصلِ الخُصوماتِ، وقَطعِ المُنازَعاتِ المُؤَدِّيةِ إلى الفَسادِ، وإحياءِ الحُقوقِ المَيِّتةِ؛ لأنَّه مُحتَسِبٌ لإحياءِ الحُقوقِ عِندَ الحاجةِ ولِلعَجزِ
[3461] يُنظر: ((نكت القرآن)) للقصاب (2/219)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/240)، ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 400)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/22). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ: يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- من القُرآنِ: - قال اللهُ تعالى:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بالشَّهادةِ مِن أجلِ إحياءِ الحُقوقِ حَتَّى لا تَضيعَ على أصحابِها، وفي كِتمِها وتَركِها تَضييعُها وإبطالُها
[3462] يُنظر: ((تقويد الأدلة)) للدبوسي (ص: 198)، ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (1/247)، ((تفسير حدائق الروح والريحان)) لمحمد أمين الهرري (30/219). .
- وقال اللهُ تَعالى حِكايةً عنِ الخَضِرِ:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الخَضِرَ قد أنقَصَ بخَرقِ السَّفينةِ ثَمَنَها؛ طَمَعًا في أن يَبقى أصلُها لأصحابِها، فدَلَّ على أنَّ إحياءَ الحُقوقِ واجِبٌ بقَدرِ الإمكانِ ولَو بذَهابِ بَعضِها إذا لَم يوجَدِ السَّبيلُ إلَيه إلَّا بذلك
[3463] يُنظر: ((نكت القرآن)) للقصاب (2/219). .
2- مِنَ السُّنَّةِ: عن زَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ألا أُخبِرُكُم بخَيرِ الشُّهَداءِ؟ الذي يَأتي بشَهادَتِه قَبلَ أن يُسألَها )) [3464] أخرجه مسلم (1719). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثنى على خَيرِ الشُّهَداءِ، وقد جاءَ في بَعضِ مَعانيه: أنَّه إذا رَأى حَقًّا يُعمَلُ بخِلافِه، وعِندَه في إحياءِ الحَقِّ شَهادةٌ، فيَقومُ بالشَّهادةِ لإحياءِ حَقِّ المُسلِمِ مِن غَيرِ تَهاوُنٍ
[3465] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/369)، ((الكوثر الجاري)) للكوراني (6/428). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- يَجوزُ إحياءُ الحُقوقِ بذَهابِ بَعضِها قُربةً إلى اللهِ إذا لَم يوجَدِ السَّبيلُ إلَيه إلَّا بذلك
[3466] يُنظر: ((نكت القرآن)) للقصاب (2/219). .
2- يَجِبُ على الرَّجُلِ أن يُزَكِّيَ الرَّجُلَ إذا كان عِندَه عَدلًا؛ لأنَّ في ذلك إحياءَ الحَقِّ، فلا يَسَعُه تَركُ تَزكيَتِه، وكَذلك في جَرحِ مَن هو عِندَه غَيرُ عَدلٍ
[3467] يُنظر: ((النوادر والزيادات)) للقيرواني (8/289). .
3- تَجوزُ الشَّهادةُ على الشَّهادةِ إذا لَم يَتَمَكَّنْ شُهودُ الأصلِ مِنَ الحُضورِ عِندَ القاضي؛ لأنَّ إحياءَ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ، والشَّاهدُ مُحتَسِبٌ فلا يُكَلَّفُ ما فيه حَرَجٌ، فيَجوزُ الإشهادُ على شَهادَتِه؛ دَفعًا للحَرَجِ عنه وإحياءً لحُقوقِ النَّاسِ
[3468] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/240)، ((لسان الحكام)) لابن الشحنة (ص: 248). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ. فائدةٌ: يُستَفادُ مِنَ القاعِدةِ في جَوازِ الحيَلِ إذا كان المَقصودُ بها إحياءَ حَقٍّ، أو دَفعَ ظُلمٍ، أو فِعلَ واجِبٍ، أو تَركَ مُحَرَّمٍ، أو إحقاقَ حَقٍّ، أو إبطالَ باطِلٍ، ونَحو ذلك مِمَّا يُحَقِّقُ مَقاصِدَ الشَّارِعِ. فإذا كانتِ الحيلةُ لا تَهدِمُ أصلًا شَرعيًّا، ولا تُناقِضُ مَصلَحةً مِنَ الشَّرعِ، فهيَ غَيرُ داخِلةٍ في النَّهيِ
[3469] يُنظر: ((الحيل)) لمحمد المسعودي (ص: 153). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش