الفَرعُ الأوَّلُ: الواحِدُ يَنوبُ عنِ العامَّةِ في المُطالَبةِ بحَقِّهم لا في إسقاطِه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الواحِدُ يَنوبُ عنِ العامَّةِ في المُطالَبةِ بحَقِّهم لا في إسقاطِه"
[3470] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/13). ، وصيغةِ: "الواحِدُ مِنَ المُسلِمينَ يَنوبُ عن جَماعَتِهم فيما هو حَقُّهم"
[3471] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/34). ، وصيغةِ: "الواحِدُ في استيفاءِ حَقِّ اللهِ تَعالى وحَقِّ العامَّةِ يَقومُ مَقامَ الكُلِّ"
[3472] يُنظر: ((الإسعاف)) للطرابلسي (ص: 71). ، وصيغةِ: "يَجوزُ لكُلِّ أحَدٍ التَّصَرُّفُ في حَقِّ العامَّةِ بشَرطِ السَّلامةِ"
[3473] يُنظر: ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (10/316). ، وصيغةِ: "ما يَكونُ حَقًّا للجَماعةِ يُباحُ لكُلِّ واحِدٍ استيفاؤُه بشَرطِ السَّلامةِ"
[3474] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/188). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الشَّخصَ الواحِدَ يُمكِنُ أن يَنوبَ عنِ العامَّةِ في إحياءِ حُقوقِهم والمُطالَبةِ بها؛ لأنَّ لكُلِّ أحَدٍ التَّصَرُّفَ في حَقِّ العامَّةِ لمَنفَعةٍ تَعودُ عليهم بشَرطِ السَّلامةِ، ولَكِن لا يَنوبُ عنهم في إسقاطِ حُقوقِهم؛ ولِذلك يولِّي الإمامُ القُضاةَ نيابةً عنِ المُسلِمينَ، ويَجوزُ أن يَقومَ القاضي مَقامَ المُمتَنِعِ في قَبضِ حَقِّه، لَكِن ليس له أن يُبرِئَ؛ لأنَّه لا يَملِكُ الإبراءَ
[3475] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/13)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/224)، ((المغني)) لابن قدامة (6/420)، ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (10/316)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/246). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (إحياءُ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ إنابةَ الواحِدِ عنِ العامَّةِ مُمكِنٌ في المُطالَبةِ بالحُقوقِ بشَرطِ السَّلامةِ، فكان جائِزًا؛ لأنَّ إحياءَ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، والقَواعِدُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن قَيسِ بنِ عَبَّادٍ، قال: انطَلَقتُ أنا والأشتَرُ إلى عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، فقُلنا: هَل عَهِدَ إلَيكَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيئًا لَم يَعهَدْه إلى النَّاسِ عامَّةً؟ قال: لا، إلَّا ما كان في كِتابي هذا، فأخرَجَ كِتابًا مِن قِرابِ سَيفِه، فإذا فيه
((المُؤمِنونَ تَكافَأُ دِماؤُهم، وهم يَدٌ على مَن سِواهم، ويَسعى بذِمَّتِهم أدناهم )) [3476] أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4734) واللفظ له، وأحمد (993). صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (2660) وقال: على شرطِ الشيخينِ، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/159)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4530)، وصحَّح إسنادَه محمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/460)، والعيني في ((نخب الأفكار)) (15/339)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/212)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (993). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في قَولِه:
((يَسعى بذِمَّتِهم أدناهم)) الذِّمَّةُ هيَ: الأمانُ والعَهدُ والضَّمانُ، والمَعنى: أنَّ الواحِدَ مِنَ المُسلِمينَ إذا أمَّنَ كافِرًا، حَرُمَ دَمُه على جَميعِ المُسلِمينَ، ولَو كان هذا المُجيرُ أصغَرَ المُسلِمينَ، والمُرادُ بالأدنى: أقَلُّهم عَدَدًا، وهو الواحِدُ، أو أسفَلُهم رُتبةً وشَرَفًا. وفيه دَلالةٌ على أنَّ الواحِدَ يَجوزُ أن يَنوبَ عنِ العامَّةِ في المُطالَبةِ بحُقوقِهم
[3477] يُنظر: ((منحة العلام)) لعبدالله الفوزان (8/230)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (12/154). .
2- مِنَ القواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (إحياءُ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- السَّلامُ مِن عِباداتِ الكِفايةِ التي فِعلُ الواحِدِ فيها يَنوبُ عنِ الجَميعِ؛ ولِهذا يُجزِئُ أن يَبتَدِئَ مِنَ الجَماعةِ واحِدٌ ويَرُدَّ مِنها واحِدٌ
[3478] يُنظر: ((المعلم)) للقاضي عياض (3/148). .
2- لَو أنَّ رَجُلًا بَنى حائِطًا في الطَّريقِ العامِّ كان لكُلِّ واحِدٍ أن يُخاصِمَه في ذلك
[3479] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (23/200)، ((الفتاوى الهندية)) (5/406). .
3- إذا مالَ حائِطٌ على دارِ قَومٍ، فأشهَدوا عليه، فصاحِبُه ضامِنٌ لِما أصابَ الحائِطُ مِنهم أو مِن غَيرِهم؛ لأنَّه بمَيلِ الحائِطِ شَغَلَ هَواءَ مِلكِهم.
والفَرقُ بَينَ ما إذا مالَ الحائِطُ إلى مِلكِ إنسانٍ، وبَينَ ما إذا مالَ إلى الطَّريقِ في مَوضِعَينِ: أحَدُهما: أنَّ التَّقدُّمَ إلَيه هاهنا لا يَصِحُّ إلَّا مِنَ المالِكِ؛ لأنَّه أشغَلَ بالحائِطِ هَواءَ مِلكِه، بخِلافِ الأوَّلِ. والثَّاني: أنَّ صاحِبَ المِلكِ بَعدَ ما تَقدَّمَ إلَيه لَو أخَّرَه أيَّامًا أو أبرَأه مِن ذلك صَحَّ؛ لأنَّه يَتَصَرَّفُ في مِلكِ نَفسِه بالإسقاطِ والتَّأخيرِ. وفي الطَّريقِ لَو أخَّرَه الذي تَقدَّمَ إلَيه فيه أو أبرَأه هو أو غَيرُه، لَم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ الواحِدَ يَنوبُ عنِ العامَّةِ في المُطالَبةِ بحَقِّهم لا في إسقاطِ حَقِّهم
[3480] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/12). .