الفَرعُ الثَّاني: تَحَمُّلُ الحَقِّ عنِ الغَيرِ بغَيرِ رِضاه جائِزٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "تَحَمُّلُ الحَقِّ عنِ الغَيرِ بغَيرِ رِضاه جائِزٌ"
[3481] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/242). ، وصيغةِ: "التَّبَرُّعُ بإسقاطِ الحَقِّ عنِ الغَيرِ جائِزٌ"
[3482] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/132). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ تَحَمُّلَ الحَقِّ بأدائِه عنِ الغَيرِ بغَيرِ رِضاه جائِزٌ، كما لَو قَضى دَينَه، فالتَّبَرُّعُ بإسقاطِ الدَّينِ بأن يَقضيَ دَينَ غَيرِه بغَيرِ إذنِه صَحيحٌ، والتَّبَرُّعُ بإسقاطِ الخُصومةِ عن غَيرِه صَحيحٌ. فالتَّصَرُّفُ هنا لإسقاطِ ما على الآخَرينَ مِن حُقوقٍ إنَّما كان على وَجهِ التَّبَرُّعِ فجازَ. وهذا بخِلافِ إيجابِ الحَقِّ على الغَيرِ بغَيرِ رِضا الغَيرِ فإنَّه لا يَجوزُ
[3483] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/242)، ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (3/257)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/52)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (5/40). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (إحياءُ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ)؛ لأنَّ في تَحَمُّلِ الحَقِّ عنِ الغَيرِ إحياءً لحَقِّ غَيرِه ومُحافَظةً عليه، فكان واجِبًا؛ لأنَّ إحياءَ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- من القُرآنِ:قال اللهُ تعالى:
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذا عامٌّ في جَميعِ أنواعِ الصُّلحِ؛ لدُخولِ الألِفِ واللَّامِ على الصُّلحِ، وهما لاستِغراقِ الجِنسِ، فيَشمَلُ الصُّلحَ عن إقرارٍ، والصُّلحَ عن إنكارٍ، وبِالصُّلحِ في هذه الوُجوه يَصيرُ المُصلِحُ مُتَصَرِّفًا على نَفسِه بالتَّبَرُّعِ بإسقاطِ الدَّينِ على الغَيرِ بالقَضاءِ مِن مالِ نَفسِه إن كان الصُّلحُ عن إقرارٍ، وإن كان عن إنكارٍ بإسقاطِ الخُصومةِ، فيَصِحُّ تَبَرُّعُه مِن مالِ نَفسِه كذلك، ففيه جَوازُ التَّبَرُّعِ بإسقاطِ الحَقِّ عنِ الغَيرِ
[3484] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/52)، ((الفقه الإسلامي)) لوهبة الزحيلي (6/4362). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: بَعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُمَرَ على الصَّدَقةِ، فقيلَ: مَنَعَ ابنُ جَميلٍ، وخالِدُ بنُ الوليدِ، والعَبَّاسُ عَمُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما يَنقِمُ ابنُ جَميلٍ إلَّا أنَّه كان فقيرًا، فأغناه اللهُ! وأمَّا خالِدٌ فإنَّكُم تَظلِمونَ خالِدًا؛ قدِ احتَبَسَ أدراعَه وأعتادَه في سَبيلِ اللهِ، وأمَّا العَبَّاسُ فهيَ عليَّ ومِثلُها مَعَها)) ثُمَّ قال:
((يا عُمَرُ، أما شَعَرتَ أنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنوُ أبيه؟ )) [3485] أخرجه البخاري (1468)، ومسلم (983) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وأمَّا العَبَّاسُ فهيَ عليَّ ومِثلُها مَعَها)) يُفيدُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحَمَّلَها عنِ العَبَّاسِ تَبَرُّعًا، وفيه صِحَّةُ تَبَرُّعِ الغَيرِ بالزَّكاةِ
[3486] يُنظر: ((سبل السلام)) للصنعاني (5/168). .
- وعن جابِرٍ رَضيَ اللهُ عنه قال:
((ماتَ رَجُلٌ مِنَّا فغَسَّلناه، وكَفَّنَّاه، وحَنَّطناه، ووضَعناه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَيثُ توضَعُ الجَنائِزُ عِندَ مَقامِ جِبريلَ، ثُمَّ آذَنَّا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصَّلاةِ عليه، فجاءَ مَعنا خُطًى، ثُمَّ قال: لَعَلَّ على صاحِبِكُم دَينًا؟ قالوا: نَعَم، دينارانِ، فتَخَلَّفَ، فقال له رَجُلٌ مِنَّا يُقالُ له: أبو قَتادةَ: يا رَسولَ اللهِ، هما عليَّ، فجَعَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: هما عليكَ، وفي مالِكَ، والمَيِّتُ مِنهما بَريءٌ؟ فقال: نَعَم، فصَلَّى عليه، فجَعَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا لَقيَ أبا قَتادةَ يَقولُ: ما فعَلَ الدِّينارانِ؟ حَتَّى كان آخِرَ ذلك قال: قد قَضَيتُهما يا رَسولَ اللهِ، قال: الآنَ بَرَّدتَ عليه جِلدَه )) [3487] أخرجه أحمد (14536)، والحاكم (2381) واللفظ له، والبيهقي (11516). صحَّحه الألباني في ((إرواء الغليل)) (1416)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/51)، والنووي في ((الخلاصة)) (2/931)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/42)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (14536). .
وَجهُ الدَّلالةِ:الحَديثُ صَريحٌ في إقرارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لتَحَمُّلِ أبي قَتادةَ الدَّينَ عنِ المَيِّتِ
[3488] يُنظر: ((سبل السلام)) للصنعاني (5/168)، ((المطلع على دقائق زاد المستقنع- المعاملات المالية)) لعبدالكريم اللاحم (3/36). ، فدَلَّ على أنَّ تَحَمُّلَ الحَقِّ عنِ الغَيرِ بغَيرِ رِضاه جائِزٌ.
3- مِنَ القواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (إحياءُ الحُقوقِ واجِبٌ ما أمكَنَ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- يَجوزُ تَحَمُّلُ الدَّينِ عَمَّن لا وفاءَ له بغَيرِ إذنِه، وأداؤُه عنه بَراءةٌ صَحيحةٌ؛ حَيثُ يَكونُ المُلتَزِمُ لقَضاءِ هذا الدَّينِ قَصَدَ بذلك الهبةَ، وإسقاطَ الطَّلَبِ عَمَّن هو عليه، لا ليَرجِعَ به عليه، ولَكِن على جِهةِ الصَّدَقةِ. أو يَكونُ قَصَدَ بذلك أن يَكونَ سَلَفًا لمَن هو عليه، يَقومُ عنه بالدَّينِ الذي عليه إلى حينٍ، أو إلى أن يَقدِرَ على قَضائِه
[3489] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (2/446)، ((شرح التلقين)) للمازري (3/1/37)، ((التحبير)) للصنعاني (6/138). .
2- الكَفالةُ بالنَّفسِ والمالِ تَصِحُّ بغَيرِ رِضا المَكفولِ عنه؛ فإنَّها ليس فيها إيجابُ حَقٍّ على الغَيرِ، ولا في مِلكِه، وإنَّما هيَ تَحَمُّلُ حَقٍّ مَضمونٍ عنه، وتَحَمُّلُ الحَقِّ عنِ الغَيرِ بغَيرِ رِضاه جائِزٌ كما لَو قَضى دَينَه
[3490] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/242). .
3- يَجوزُ التَّبَرُّعُ لمُخالَعةِ امرَأةٍ مِن زَوجِها؛ لأنَّ التَّبَرُّعَ بإسقاطِ الحَقِّ عنِ الغَيرِ جائِزٌ
[3491] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/132). .