موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الحُقوقُ إذا تَقَرَّرَت لأربابِها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها" [3492] يُنظر: ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد الحفيد (1/538). ، وصيغةِ: "الحُقوقُ إذا ثَبَتَت لا تَسقُطُ إلَّا بإسقاطِها أو بانتِهاءِ الوقتِ المُحَدَّدِ لها" [3493] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3118). ، وصيغةِ: "الحُقوقُ الثَّابِتةُ في الذِّمَمِ لا تَسقُطُ إلَّا بالأداءِ أوِ الإبراءِ" [3494] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/78)، ((بحر المذهب)) للروياني (9/76). ، وصيغةِ: "الحُقوقُ تَسقُطُ بالإسقاطِ" [3495] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (4/17). ، وصيغةِ: "حُقوقُ الآدَميِّينَ لا تَسقُطُ كَأموالِهم" [3496] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (7/389). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
وُضِعَت هذه القاعِدةُ لحِفظِ حُقوقِ العِبادِ، فهيَ تُفيدُ أنَّ الحُقوقَ إذا تَقَرَّرَت وثَبَتَت لأربابِها، فإنَّها لا تَسقُطُ إلَّا بما يَصِحُّ به إسقاطُها، ومِمَّا يَصِحُّ به إسقاطُ الحُقوقِ: القَبضُ أوِ الإبراءُ، أو أن يَعفو صاحِبُها عنها. ومِنها: البَيعُ أوِ الهبةُ أوِ الصَّدَقةُ أو ما أشبَهَ ذلك. فالقاعِدةُ المُعتَبَرةُ في ذلك أنَّ المُلَّاكِ مُختَصُّونَ بأملاكِهم لا يُزاحِمُ أحَدٌ مالِكًا في مِلكِه مِن غَيرِ حَقٍّ مُستَحَقٍّ، ثُمَّ الضَّرورةُ تُحوِجُ مُلَّاكَ الأموالِ التَّبادُلَ فيها؛ فإنَّ أصحابَ الأطعِمةِ قد يَحتاجونَ إلى النُّقودِ، وأصحابَ النُّقودِ يَحتاجونَ إلى الأطعِمةِ، وكَذلك القَولُ في سائِرِ صُنوفِ المالِ [3497] يُنظر: ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد الحفيد (1/538)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/314)، ((غياث الأمم)) لأبي المعالي الجويني (ص: 494)، ((زهرة التفاسير)) لأبي زهرة (4/2157). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّ الأصلَ المَقطوعَ به في الحُقوقِ اتِّباعُ تَراضي المُلَّاكِ، فيُمنَعُ كُلُّ أحَدٍ أن يَأكُلَ مالَ غَيرِه إلَّا برِضاه [3498] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/241)، ((غياث الأمم)) لأبي المعالي الجويني (ص: 494). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي حُمَيدٍ السَّاعِديِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَحِلُّ للرَّجُلِ أن يَأخُذَ عَصا أخيه بغَيرِ طيبِ نَفسِه؛ وذلك لشِدَّةِ ما حَرَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مالِ المُسلِمِ على المُسلِمِ)) [3499] أخرجه أحمد (23605) واللفظ له، وابن حبان (5978)، والبيهقي (11652). صحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (1871)، وصحَّح إسنادَه العيني في ((نخب الأفكار)) (13/244) وقال: على شرط مسلم، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23605)، وحسَّنه البزار في ((البحر الزخار)) (9/167). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على عَدَمِ حِلِّ مالِ المُسلِمِ إلَّا بطيبِ نَفسٍ مِنه ورِضاه [3500] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (6/356)، ((الأحكام الفقهية التي قيل فيها بالنسخ)) لمحمد سركند (3/1888). .
3- مِنَ الإجماعِ:
نُقِلَ الإجماعُ على أنَّ استِباحةَ أموالِ النَّاسِ وحُقوقِهم مَنوطٌ بالرِّضا مِن أصحابِها، ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ عَبدِ البَرِّ [3501] قال: (الأصلُ المجتَمَعُ عليه أنَّه لا يحِلُّ مالُ امرئٍ مُسلِمٍ إلَّا عن طيبِ نفسٍ، وأنَّ ‌التِّجارةَ ‌لا ‌تجوزُ ‌إلَّا ‌عن ‌تراضٍ). ((الاستذكار)) (7/88). ، والقُرطُبيُّ [3502] قال: (الأصلُ المتَّفَقُ عليه ‌تحريمُ ‌مالِ ‌الغيرِ ‌إلَّا ‌بطيبِ ‌َنَفسٍ منهـ). ((تفسير القرطبي)) (2/227). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- خيارُ الرَّدِّ بالعَيبِ على التَّراخي عِندَ الحَنَفيَّةِ والحَنابِلةِ، فلا يُشتَرَطُ أن يَكونَ رَدُّ المَبيعِ بَعدَ العِلمِ بالعَيبِ على الفَورِ. فمَتى عَلِمَ العَيبَ فأخَّرَ الرَّدَّ، لَم يَبطُلْ خيارُه حَتَّى يوجَدَ مِنه ما يَدُلُّ على الرِّضا؛ لأنَّ هذا الخيارَ شُرِعَ لدَفعِ الضَّرَرِ، فلا يَبطُلُ بالتَّأخيرِ؛ ولِأنَّ الحُقوقَ إذا ثَبَتَت لا تَسقُطُ إلَّا بإسقاطِها أو بانتِهاءِ الوقتِ المُحَدَّدِ لَها، وليس لهذا الحَقِّ وقتٌ مُحَدَّدٌ [3503] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3118). ويُنظر أيضًا: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/66)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 410)، ((المغني)) لابن قدامة (6/226). .
2- يُشتَرَطُ للقَطعِ ثُبوتُ السَّرِقةِ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالى أوجَبَ القَطعَ على السَّارِقِ، ولا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بثُبوتِه، إمَّا بشَهادةِ عَدلَينِ، أو باعتِرافِ السَّارِقِ مَرَّتَينِ. وإذا وجَبَ القَطعُ بشَهادةِ عَدلَينِ لَم يَسقُطِ القَطعُ بغَيبَتِهما ولا مَوتِهما، كَسائِرِ الحُقوقِ إذا ثَبَتَت [3504] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (14/163). .
3- يَصِحُّ إسقاطُ الدَّينِ الثَّابِتِ في الذِّمَّةِ؛ لأنَّه حَقٌّ، والحُقوقُ تَسقُطُ بالإسقاطِ، فكُلُّ مَن ثَبَتَ له دَينٌ على غَيرِه، فإنَّه يَجوزُ له إسقاطُه [3505] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (4/238). .
4- لا يَسقُطُ بالخُلعِ شَيءٌ مِن حُقوقِ الزَّوجيَّةِ إلَّا إذا نُصَّ على إسقاطِه، فهو تَمامًا كالطَّلاقِ على مالٍ، يَقَعُ به الطَّلاقُ بائِنًا، ويَجِبُ فقَطِ البَدَلُ المُتَّفَقُ عليه؛ لأنَّ الحُقوقَ لا تَسقُطُ إلَّا بما يَدُلُّ على سُقوطِها قَطعًا، وليس في الخُلعِ دَلالةٌ على إسقاطِ الحُقوقِ الثَّابِتةِ؛ لأنَّه مُعاوضةٌ مِن جانِبِ الزَّوجةِ، والمُعاوضاتُ لا أثَرَ لَها في غَيرِ ما تَراضى عليه الطَّرَفانِ [3506] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (9/7037). .

انظر أيضا: