موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: المَقصَدُ إذا كان له وسيلَتانِ فأكثَرُ لا تَتَعَيَّنُ إحداهما عَينًا بَل يُخَيَّرُ بَينَهما، وأمَّا إذا اتَّحَدَتِ الوسيلةُ فتَتَعَيَّنُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَقصَدُ إذا كان له وسيلَتانِ فأكثَرُ لا تَتَعَيَّنُ إحداهما عَينًا بَل يُخَيَّرُ بَينَهما، وأمَّا إذا اتَّحَدَتِ الوسيلةُ فتَتَعَيَّنُ" [2436] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/146). ، وصيغةِ: "المَقصَدُ مَتى كان له وسيلَتانِ فأكثَرُ لم تَجِبْ إحداهما عَينًا، لا عَقلًا ولا شَرعًا" [2437] يُنظر: ((نفاس الأصول)) للقرافي (1/397). . وصيغةِ: "حُصولُ المَقصودِ بإحدى الوسائِلِ مُسقِطٌ لاعتِبارِ التَّعيينِ فيها" [2438] يُنظر: ((قواعد الوسائل)) لمخدوم (ص: 275). ، وصيغةِ: "إذا تَيَسَّرَ المَقصودُ بدونِ وسيلةٍ مُعَيَّنةٍ سَقَطَ اعتِبارُها" [2439] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/ 177). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المَقصَدَ إذا كانت له وسيلةٌ واحِدةٌ يُتَوصَّلُ بها إليه فإنَّها تَكونُ تابِعةً للمَقصَدِ، فتَجِبُ بوُجوبِه وتَسقُطُ بسُقوطِه ونَحوِ ذلك، أمَّا إذا كان للمَقصَدِ مَجموعةٌ مِنَ الوسائِلِ يُتَوصَّلُ بها إليه فلا يُحكَمُ على وسيلةٍ بعَينِها بحُكمِ المَقصَدِ ويُلزَمُ المُكَلَّفُ بها وتَكونُ مَطلوبةً بعَينِها، بَل يَتَخَيَّرُ المُكَلَّفُ مِنَ الوسائِلِ ما يُلائِمُه طالَما تَساوت في تَحقيقِ المَقصَدِ والإيصالِ إليه بدَرَجةٍ مُتَساويةٍ، ما لم تَكُنْ إحدى الوسائِلُ مَطلوبةً لذاتِها، فإنَّها تَصيرُ حينَئِذٍ وسيلةً ومَقصَدًا في آنٍ واحِدٍ، وتُعتَبَرُ القاعِدةُ مُكملةً لقاعِدةِ (للوسائِلِ أحكامُ المَقاصِدِ) [2440] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/146)، ((مقاصد الشريعة)) لابن عاشور (3/408). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ.
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن رافِعِ بنِ خَديجٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّنا نَلقى العَدوَّ غَدًا وليس مَعنا مُدًى، فقال: ما أنهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ اللهِ عليه فكُلوه، ما لم يَكُنْ سِنٌّ ولا ظُفُرٌ، وسَأُحَدِّثُكُم عن ذلك: أمَّا السِّنُّ فعَظمٌ، وأمَّا الظُّفْرُ فمُدى الحَبَشةِ )) [2441] أخرجه البخاري (5543) واللفظ له، ومسلم (1968). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَقصودَ -وهو الذَّبحُ- له وسائِلُ مُتَعَدِّدةٌ، فبَيَّنَ لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَوازَ الذَّبحِ بما يَحصُلُ به المَقصودُ، بشَرطِ كَونِه مُحَددًا، ما عَدا السِّنَّ والظُّفُرَ، فثَبَتَ به أنَّ المَقصودَ إذا كان له وسائِلُ مُتَعَدِّدةٌ مُتَساويةٌ لا تَتَعَيَّنُ وسيلةٌ بذاتِها [2442] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/1245)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/290). .
2- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ الوسائِلَ ليسَت مَطلوبةً لذاتِها، بَل مِن أجلِ إيصالِها إلى المَقصودِ، فكُلُّ ما أوصَلَ إلى المَقصودِ حينَئِذٍ يُغني بَعضُه عن بَعضٍ، ولا وجهَ إذًا لحَصرِ تلك الوسائِلِ بوسيلةٍ واحِدةٍ تَعيينًا؛ لأنَّ هذا يُخالِفُ مَنطِقَ العُقولِ ومُقتَضاها [2443] يُنظر: ((معلمة زايد)) (4/350). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الجامِعُ إذا كان له طَريقانِ مُستَويانِ يَومَ الجُمُعةِ لا يَجِبُ سُلوكُ أحَدِهما عَينًا بَل يُخَيَّرُ بَينَهما [2444] يُنظر: ((الفروق)) (3/146)، (نفائس الأصول)) (4/1626) كلاهما للقرافي. .
2- إذا نَذَرَ إنسانٌ الحَجَّ وكان وُصولُه إلى مَكَّةَ يَحصُلُ بوسائِلَ مُتَعَدِّدةٍ عن طَريقِ البَرِّ والبَحرِ والجَوِّ، فهو بالخيارِ في اتِّخاذِ ما يُناسِبُه مِنَ الوسائِلِ، ولا تَتَعَيَّنُ عليه وسيلةٌ بعَينِها [2445] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/146). .
3- السِّواكُ مُستَحَبٌّ عِندَ الوُضوءِ والصَّلاةِ، ويَكونُ بعودِ الأراكِ وغَيرِه مِمَّا يَقومُ مَقامَه؛ لأنَّ المَقصودَ تَطهيرُ الأسنانِ والفمِ ونَظافتُهما، وهذا يَحصُلُ بوسائِلَ مُتَعَدِّدةٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (السِّواكُ المَندوبُ إليه هو المَعروفُ عِندَ العَرَبِ وفي عَصرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكذلك الأراكُ والبشامُ وكُلُّ ما يَجلو الأسنانَ إذا لم يَكُنْ فيه صبغٌ ولَونٌ فهو مِثلُ ذلك، ما خَلا الرَّيحانَ والقَصَبَ؛ فإنَّهما يُكرَهانِ، وقالت طائِفةٌ مِنَ العُلَماءِ: إنَّ الأُصبُعَ تُغني مِنَ السِّواكِ) [2446] ((التمهيد)) (7/201). ويُنظر: ((بداية المحتاج)) لابن قاضي شهبة (1/136)، ((شرح زروق على متن الرسالة)) (2/970). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
الأصلُ -كَما في القاعِدةِ- أنَّ المَقصَدَ إذا كان له وسيلَتانِ فأكثَرُ لا تَتَعَيَّنُ إحداهما عَينًا، لكِن إذا دَلَّ دَليلٌ على تَعيينِ وسيلةٍ مِن وسائِلِ المَقصودِ تَعَيَّنَت طَريقًا للمَقصودِ، وزالَ وصفُ الاعتِبارِ عن بَقيَّةِ الوسائِلِ، ومِن أمثِلَتِه:
1- نَقلُ مَعاني القُرآنِ الكَريمِ: فإنَّه لا بُدَّ فيه مِنَ التَّقَيُّدِ بالألفاظِ المَنَزَّلةِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يَجوزُ نَقلُها بالمَعنى [2447] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/ 247)، ((قواعد الوسائل)) لمخدوم (ص:279- 280). .
2- ألفاظُ الأذانِ: فإنَّه يَجِبُ أن تُؤَدَّى بنَفسِ الألفاظِ ولا يُنقَصَ مِنها، أو تُغَيَّرَ بغَيرِها [2448] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (2/ 179)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 127)، ((قواعد الوسائل)) لمخدوم (ص:280). .

انظر أيضا: