الفَرعُ الثَّاني: كُلَّما سَقَطَ اعتِبارُ المَقصَدِ سَقَطَ اعتِبارُ الوسيلةِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلَّما سَقَطَ اعتِبارُ المَقصَدِ سَقَطَ اعتِبارُ الوسيلةِ"
[2414] يُنظر: ((الفروق)) (2/33)، ((الذخيرة)) (1/153) كلاهما للقرافي. ، وصيغةِ: "الوسائِلُ تَسقُطُ بسُقوطِ المَقاصِدِ"
[2415] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/121). ، وصيغةِ: "الوسائِلُ يَسقُطُ اعتِبارُها عِندَ تَعَذُّرِ المَقاصِدِ"
[2416] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/270). ، وصيغةِ: "إذا سَقَطَ اعتِبارُ المَقصَدِ سَقَطَ اعتِبارُ الوسيلةِ"
[2417] يُنظر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص:175). ، وصيغةِ: "إذا بَطَل المَقصودُ بَطَلَتِ الوسيلةُ"
[2418] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (1/495). . وصيغةِ: "إذا سَقَطَ المَقصودُ لم يَبقَ للوسيلةِ مَعنًى"
[2419] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 291). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. تَقدَّمَ أنَّ الوسيلةَ هيَ ما يُتَوصَّلُ به إلى الشَّيءِ أو يُتَقَرَّبُ به إليه، وأنَّها تُفضي إلى مَقصَدٍ ما، فهيَ ليسَت مَقصودةً لذاتِها، وإنَّما هيَ طَريقٌ إلى المَقصَدِ الذي هو الغَرَضُ الأهَمُّ، فحينَئِذٍ تَكونُ تابِعةً للمَقصَدِ، فإذا سَقَطَ المَقصَدُ أو أُلغيَ اعتِبارُه أو مُنِعَ مِنه سَقَطَتِ الوسيلةُ؛ لأنَّ الوسائِلَ مِن حَيثُ هيَ وسائِلُ غَيرُ مَقصودةٍ لأنفُسِها، وإنَّما هيَ تَبَعٌ للمَقاصِدِ، بحَيثُ لو سَقَطَتِ المَقاصِدُ سَقَطَتِ الوسائِلُ، وبحَيثُ لو تُوُصِّلَ إلى المَقاصِدِ دونَها لم يُتَوسَّلْ بها، وبحَيثُ لو فرَضنا عَدَمَ المَقاصِدِ جُملةً لم يَكُنْ للوسائِلِ اعتِبارٌ، بَل تَكونُ كالعَبَثِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ تَطبيقًا لقاعِدةِ (للوسائِلِ أحكامُ المَقاصِدِ)
[2420] يُنظر: ((الفروق)) (2/33)، ((الذخيرة)) (1/153) كلاهما للقرافي، ((الموافقات)) للشاطبي (2/353). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ المَعقولُ:
وهو أنَّ الوسيلةَ ليسَت مَقصودةً لذاتِها بَل مَقصودةٌ مِن أجلِ التَّوصُّلِ بها إلى المَقصَدِ، فإذا سَقَطَ المَقصَدُ سَقَطَت وإلَّا كان وُجودُها عَبَثًا، والشَّريعةُ مُنَزَّهةٌ عنه
[2421] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/353). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن كان مَعَه مِنَ الماءِ ما لا يَكفيه لغُسلِه مِنَ الجَنابةِ، مِثلُ أن يَكفيَه لبَعضِ أعضائِه ولا يَكفي الباقي، فإنَّه يَتَيَمَّمُ ولا يَجِبُ عليه استِعمالُه، وكذلك لو كان مَعَه ما يَكفي بَعضَ أعضائِه في الوُضوءِ ولا يَكفي جَميعَ أعضائِه، فإنَّه يَتَيَمَّمُ ويَترُكُ الماءَ الذي لا يَكفيه، عِندَ الحَنَفيَّةِ والمالِكيَّةِ؛ لأنَّ الماءَ وسيلةٌ إلى الوُضوءِ أوِ الغُسلِ، ومَن لا يَجِدُ مِنَ الماءِ ما يَكفيه يَسقُطُ عنه الوُضوءُ والغُسلُ، فسَقَطَ عنه استِعمالُ الماءِ الذي هو وسيلةٌ؛ لسُقوطِ المَقصَدِ
[2422] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للجصاص (1/150)، ((عيون الأدلة)) لابن القصار (3/1189). .
2- في الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، إن عَلِمَ الآمِرُ بالمَعروفِ والنَّاهي عنِ المُنكَرِ أنَّ أمرَه ونَهيَه لا يُجديانِ ولا يُفيدانِ شَيئًا، أو غَلَبَ على ظَنِّه، سَقَطَ الوُجوبُ؛ لأنَّه وسيلةٌ، ويبقى الاستِحبابُ، والوسائِلُ تَسقُطُ بسُقوطِ المَقاصِدِ، وقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدخُلُ إلى المَسجِدِ الحَرامِ وفيه الأنصابُ والأوثانُ، ولَم يَكُنْ يُنكِرُ ذلك كُلَّما رَآه، وكذلك لم يَكُنْ كُلَّما رَأى المُشرِكينَ يُنكِرُ عليهم، وكذلك كان السَّلَفُ لا يُنكِرونَ على الفسَقةِ والظَّلَمةِ فُسوقَهم وظُلمَهم وفُجورَهم كُلَّما رَأوهم، مَعَ عِلمِهم أنَّه لا يُجدي إنكارُهم
[2423] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/128). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءٌ: إمرارُ الموسى في الحَجِّ على رَأسِ مَن لا شَعرَ له مَعَ أنَّه وسيلةٌ إلى إزالةِ الشَّعرِ، إلَّا أنَّه إذا زالَ الشَّعرُ وجَبَ على الحاجِّ إمرارُ الموسى على رَأسِه له، مَعَ أنَّه وسيلةٌ إلى إزالةِ الشَّعرِ وقد زالَ الشَّعرُ، لكِن تَظَلُّ الوسيلةُ مَقصودةً عِندَ المالِكيَّةِ
[2424] يُنظر: ((الفروق)) (2/33)، ((الذخيرة)) (1/153) كلاهما للقرافي. ، وقد أشارَ الشَّاطِبيُّ إلى أنَّ الوسيلةَ هنا بَقيَت مَعَ ذَهابِ المَقصَدِ؛ لأنَّ الوسيلةَ مَقصودةٌ لذاتِها، فقال: (ولَكِن إن فرَضنا كَونَ الوسيلةِ كالوصفِ للمَقصودِ بكَونِه مَوضوعًا لأجلِه، فلا يُمكِنُ والحالُ هذه أن تَبقى الوسيلةُ مَعَ انتِفاءِ القَصدِ، إلَّا أن يَدُلَّ دَليلٌ على الحُكمِ ببَقائِها، فتَكونُ إذ ذاكَ مَقصودةً لنَفسِها، وإنِ انجَرَّ مَعَ ذلك أن تَكونَ وسيلةً إلى مَقصودٍ آخَرَ، فلا امتِناعَ في هذا، وعلى ذلك يُحمَلُ إمرارُ الموسى على رَأسِ مَن لا شَعرَ له، وبِهذه القاعِدةِ يَصِحُّ القَولُ بإمرارِ الموسى على مَن وُلِدَ مَختونًا بناءً على أنَّ ثَمَّ ما يَدُلُّ على كَونِ الإمرارِ مَقصودًا لنَفسِهـ)
[2425] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/35). .
وقد تَناولَ ابنُ القَيِّمِ هذه المَسألةَ وأشارَ إلى استِحبابِ بَعضِ المُتَأخِّرينَ لذلك، ثُمَّ قال: (والصَّوابُ: أنَّ هذا مَكروهٌ لا يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ به، ولا يُتَعَبَّدُ بمِثلِه، وتُنَزَّهُ عنه الشَّريعةُ؛ فإنَّه عَبَثٌ لا فائِدةَ فيه، وإمرارُ الموسى غَيرُ مَقصودٍ، بَل هو وسيلةٌ إلى فِعلِ المَقصودِ، فإذا سَقَطَ المَقصودُ لمَ يَبقَ للوسيلةِ مَعنًى.
ونَظيرُ هذا ما قاله بَعضُهم: إنَّ الذي لم يُخلَقْ على رَأسِه شَعرٌ يُستَحَبُّ له في النُّسُكِ أن يُمِرَّ الموسى على رَأسِه.
ونَظيرُه قَولُ بَعضِ المُتَأخِّرينَ مِن أصحابِ أحمَدَ وغَيرِهم: إنَّ الذي لا يُحسِنُ القِراءةَ بالكُلِّيَّةِ ولا الذِّكرَ، أوِ الأخرَسَ: يُحَرِّكُ لسانَه حَرَكةً مُجَرَّدةً)
[2426] ((تحفة المودود)) (ص: 291). .