الفَرعُ السَّادِسُ: المُستَقذَرُ شَرعًا كالمُستَقذَرِ حِسًّا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المُستَقذَرُ شَرعًا كالمُستَقذَرِ حِسًّا"
[2215] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (1/229). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.مَعنى المُستَقذَرِ شَرعًا: ما استَقذَرَه الشَّرعُ وإن لم يَستَقذِرْه النَّاسُ، وأمَر الشَّارِعُ بالتَّنَزُّهِ مِنه، وهو إمَّا حِسِّيٌّ، ويُسَمَّى نَجاسةً. وإمَّا حُكميٌّ، ويُسَمَّى حَدَثًا. والنَّجَسُ أكثَرُ ما يُقالُ في المُستَقذَرِ عَقلًا وشَرعًا.
وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المُستَقذَرَ مِن جِهةِ الشَّرعِ يَكونُ كالمُستَقذَرِ مِن جِهةِ الحِسِّ والطَّبعِ، فيَنبَغي اجتِنابُه؛ لتَنفيرِ الشَّارِعِ مِنه ونَهيِه عنه؛ لأنَّ القَذرَ يَشمَلُ كُلَّ ما يُستَقذَرُ، والحَرامُ مُستَقذَرٌ شَرعًا
[2216] يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (3/75)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1924)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/25)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/30)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 479)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 31)، ((معجم لغة الفقهاء)) لقلعجي (ص: 475). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (المَوجودُ شَرعًا كالمَوجودِ حَقيقةً)؛ إذِ المُستَقذَرُ مِن جِهةِ الشَّرعِ كالمُستَقذَرِ حِسًّا؛ فالمَوجودُ شَرعًا كالمَوجودِ حَقيقةً.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَمَلتُ على فرَسٍ في سَبيلِ اللهِ، فأضاعَه الذي كان عِندَه، فأرَدتُ أن أشتَريَه، وظَنَنتُ أنَّه يَبيعُه برُخصٍ، فسَألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال:
((لا تَشتَري، ولا تَعُدْ في صَدَقَتِك، وإن أعطاكَه بدِرهَمٍ؛ فإنَّ العائِدَ في صَدَقَتِه كالعائِدِ في قَيئِه )) [2217] أخرجه البخاري (1490). .
وفي رِوايةٍ:
((فإنَّ العائِدَ في صَدَقَتِه كالكَلبِ يَعودُ في قَيئِهـ)) [2218] أخرجها البخاري (2623)، ومسلم (1620). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فإنَّ العائِدَ في صَدَقَتِه كالعائِدِ في قَيئِهـ)) الفاءُ للتَّعليلِ، أي: كَما يَقبُحُ أن يَقيءَ ثُمَّ يَأكُلَ مِن قَيئِه، فكذلك يَقبُحُ أن يَتَصَدَّقَ بشَيءٍ ثُمَّ يَجُرَّه إلى نَفسِه بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ. وجاءَ في رِوايةٍ
((كالكَلبِ يَعودُ في قَيئِهـ)) فشُبِّهَ بأخَسِّ حَيَوانٍ في أخَسِّ أحوالِه؛ تَصويرًا للتَّهجينِ وتَنفيرًا مِنه، وفي ذلك دَليلٌ على المَنعِ مِنَ الرُّجوعِ في الصَّدَقةِ؛ لِما اشتَمَلَ عليه مِنَ التَّنفيرِ الشَّديدِ بتَشبيهِه بهذا المُستَقذَرِ
[2219] يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (3/75). .
2- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (المَوجودُ شَرعًا كالمَوجودِ حَقيقةً).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا اشتَرى ماءً قَليلًا ليَشرَبَه فبان قد تُوُضِّئَ به، فهو مَعيبٌ؛ لأنَّه مُستَقذَرٌ شَرعًا. ولَو وكَّلَه في شِراءِ ماءٍ وأطلَقَ، فاشتَراه، لم يَلزَمْ مُوكِّلًا قَبولُه؛ لأنَّه مَعيبٌ، ولَزِمَ الوكيلَ؛ حَيثُ عَلِمَ بالعَيبِ ولَم يَرضَه موكِّلُه، وإن جَهِلَ فلَه رَدُّه
[2220] يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/49)، ((هداية الراغب)) لابن قائد (1/116). .
2- مَن أصابَه عَرَقُ الكَلبِ فقد أصابَه عَرَقُ حَيَوانٍ نَجِسٍ، فكان نَجِسًا كَلُعابِه؛ لأنَّه مُستَقذَرٌ شَرعًا، أي أمَرَ الشَّارِعُ بالتَّنَزُّهِ عنه، فكان نَجِسًا كالبَولِ
[2221] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1924)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 648). .
3- الرُّجوعُ في الصَّدَقةِ مَنهيٌّ عنه، وهو قَبيحٌ شَرعًا، فكَما يَقبُحُ أن يَقيءَ الإنسانُ ثُمَّ يَأكُلَ، فكذلك يَقبُحُ أن يَتَصَدَّقَ بشَيءٍ ثُمَّ يَجُرَّه إلى نَفسِه
[2222] يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (3/75). .