موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: المَرجِعُ في كُلِّ شَيءٍ إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ الخِبرةِ به


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَرجِعُ في كُلِّ شَيءٍ إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ الخِبرةِ به" [2223] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/36). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المَرجِعَ في كُلِّ شَيءٍ مِن أُمورِ الدُّنيا إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ الخِبرةِ به، فيُسألُ عنه أهلُ الخِبرةِ والبَصيرةِ به، ومَن يوثَقُ بدينِه وأمانَتِه مِن أهلِ العِلمِ به؛ فإنَّهم غَيرُ مُتَّهَمينَ في دينِهم، ولا مُقَصِّرينَ في مَعرِفتِهم به، وقد يَكونُ أهلُ الخِبرةِ به أعلَمَ مِنَ الفُقَهاءِ الذينَ لم يُباشِروا ذلك، فهذا مِن أُمورِ الدُّنيا التي قد لا يَعلَمُ بَعضَها العالِمونَ بأُمورِ الشَّرعِ. والرُّجوعُ إلى أهلِ الخِبرةِ هو المُتَّبَعُ في سائِرِ أبوابِ الفِقهِ، وإن تَطَرَّقَ إليه تَقديرُ الخَطَأِ ظَنًّا [2224] يُنظر: ((الخراج)) لأبي يوسف (ص: 123)، ((معالم السنن)) للخطابي (4/230)، ((مجموع الفتاوى)) (29/36)، ((القواعد النورانية)) (ص: 184) كلاهما لابن تيمية، ((المنثور)) للزركشي (1/400). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 197] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَعنى أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً على صِحَّتِه، وأنَّه مِنَ اللهِ أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذي قدِ انتَهى إليهمُ العِلمُ، وصاروا أعلَمَ النَّاسِ، وهم أهلُ الصِّنفِ؛ فإنَّ كُلَّ شَيءٍ يَحصُلُ به اشتِباهٌ يُرجَعُ فيه إلى أهلِ الخِبرةِ والدِّرايةِ، فيَكونُ قَولُهم حُجَّةً على غَيرِهم، كَما عَرَف السَّحَرةُ الذينَ مَهَروا في عِلمِ السِّحرِ صِدقَ مُعجِزةِ موسى، وأنَّه ليسَ بسِحرٍ، فقَولُ الجاهِلينَ بَعدَ هذا لا يَؤبَهُ به [2225] يُنظَرُ: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 597). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ بقَومٍ يُلَقِّحونَ، فقال: لو لم تَفعَلوا لصَلُح. قال: فخَرَجَ شِيصًا [2226] قال النَّوويُّ: (هو البُسرُ الرَّديءُ الذي إذا يَبِسَ صارَ حَشَفًا، وقيلَ: أردَأُ البُسرِ، وقيلَ: تَمرٌ رَديءٌ، وهو مُتَقارِبٌ). ((شرح مسلم)) (15/ 118). ، فمَرَّ بهم فقال: ما لنَخلِكُم؟ قالوا: قُلتَ كَذا وكَذا. قال: أنتُم أعلَمُ بأمرِ دُنياكُم)) [2227] أخرجه مسلم (2363). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنتُم أعلَمُ بأمرِ دُنياكُم)) على أنَّ أهلَ الخِبرةِ بأُمورِ الدُّنيا قد يَكونون أعلَمَ بها مِنَ الفُقَهاءِ الذينَ لم يُباشِروا ذلك، فهذا مِن أُمورِ الدُّنيا التي قد لا يَعلَمُها العالِمُ بأُمورِ الشَّرعِ [2228] يُنظَرُ: ((القواعد النورانية)) لابن تيمية (ص: 184). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا تَجوزُ شَهادةُ بَدَويٍّ على صاحِبِ قَريةٍ )) [2229] أخرجه أبو داود (3602)، وابن ماجه (2367). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3602)، وصَحَّحَ إسناده مُحَمَّد ابن عبد الهادي في ((حاشية الإلمام)) (646)، والعيني في ((نخب الأفكار)) (14/554)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3602)، وحسنه البزار في ((البحر الزخار)) (15/259). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ الشَّاهدَ لا بُدَّ أن يَكونَ مِن أهلِ الخِبرةِ الباطِنةِ بأهلِ المَكانِ [2230] يُنظر: ((السنن الكبرى)) للبيهقي (21/233). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- استِقبالُ القِبلةِ لمَن غابَ عنِ البَيتِ الحَرامِ واشتَبَهَت عليه إنَّما يَكونُ بالدَّلائِلِ التي جَعَلَها اللهُ مِنَ النُّجومِ والشَّمسِ والقَمَرِ والجِبالِ والرِّياحِ، وغَيرِها مِمَّا يَستَدِلُّ به أهلُ الخِبرةِ على التَّوجُّهِ إلى البَيتِ؛ فإنَّ ما يُستَدَلُّ به مِن جِهةِ النُّجومِ على جِهةِ القِبلةِ فإنَّما هيَ كَواكِبُ أرصَدَها أهلُ الخِبرة بها مِنَ الأئِمَّةِ الذينَ لا نَشُكُّ في عِنايَتِهم بأمرِ الدِّينِ ومَعرِفتِهم بها وصِدقِهم فيما أخبَروا به عنها، مِثلُ أن يُشاهِدوها بحَضرةِ الكَعبةِ ويُشاهِدوها في حالِ الغَيبةِ عنها، فكان إدراكُهمُ الدَّلالةَ عنها بالمُعايَنةِ، وإدراكُنا لذلك بقَبولِنا لخَبَرِهم؛ إذ كانوا غَيرَ مُتَّهَمينَ في دينِهم، ولا مُقَصِّرينَ في مَعرِفتِهم [2231] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (1/114)، ((معالم السنن)) للخطابي (4/230). .
2- يَجوزُ بَيعُ المُغَيَّباتِ في الأرضِ، كالجَزَرِ واللِّفتِ وغَيرِه، وإن كان باطِنُها لا يُرى؛ لأنَّ أهلَ الخِبرةِ يَستَدِلُّونَ برُؤيةِ ورَقِ هذه المَدفوناتِ على حَقيقَتِها، ويَعلَمونَ ذلك، والمَرجِعُ في كُلِّ شَيءٍ إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ الخِبرةِ به، وهم يُقِرُّونَ بأنَّهم يَعرِفونَ هذه الأشياءَ كَما يُعرَفُ غَيرُها مِمَّا اتَّفقَ المُسلِمونَ على جَوازِ بَيعِه وأَولى [2232] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/36)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (4/23)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/329). .
3- الحُكمُ في مَسائِلِ الحَيضِ والنِّفاسِ والحَملِ وغَيرِها يَحتاجُ إلى الرُّجوعِ لأهلِ الخِبرةِ والاختِصاصِ، فمِنَ المُتَقَرِّرِ أنَّ ما لا ضابِطَ له في الشَّرعِ أوِ اللُّغةِ يُرجَعُ فيه إلى العُرفِ والوُجودِ. والوُجودُ يَضبِطُه الخَبيرُ به، وهو الطَّبيبُ متى تَعَلَّقَ الأمرُ ببَدَنِ الإنسانِ [2233] يُنظر: ((أثر تطور المعارف الطبية)) لحاتم الحاج (ص: 33). .
4- جَرَتِ العادةُ في بَعضِ المُستَشفياتِ أن توجَدَ لجنةٌ مُكَوَّنةٌ مِن عَدَدٍ مِنَ الأطِبَّاءِ المُختَصِّينَ يَتَولَّونَ النَّظَرَ في بَعضِ الحالاتِ، والحُكمَ فيها بوُجوبِ التَّدَخُّلِ الفَوريِّ أوِ الانتِظارِ حَسَبَما تَقتَضيه مَصلَحةُ المَريضِ ودَرَجةُ خُطورةِ مَرَضِه. وشَهادةُ هؤلاء الأطِبَّاءِ مِن أهلِ الخِبرةِ تُعتَبَرُ مُستَنَدًا شرعيًّا ضِدَّ دَعوى التُّهمةِ إذا وُجِّهَت للطَّبيبِ الجَرَّاحِ في حالِ قيامِه بفِعلِ هذا النَّوعِ مِنَ الجِراحةِ المُستَعجَلةِ الضَّروريَّةِ [2234] يُنظر: ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 264). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
ما تَوقَّف على التَّقويمِ وعُرِضَ على أهلِ الخِبرةِ وحَكَموا بالتَّقويمِ تَقريبًا، فهو المُتَّبَعُ في سائِرِ الأبوابِ وإن تَطَرَّقَ إليه تَقديرُ النُّقصانِ ظَنًّا، إلَّا في بابِ السَّرِقةِ؛ فإنَّه لا يُعتَمَدُ عِندَ المُحَقِّقينَ؛ لسُقوطِ القَطعِ بالشُّبهةِ [2235] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/400). .
فائِدةٌ:
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المُتَصَدِّرَ للفُتيا يَلزَمُ أن يَستَشيرَ أهلَ الخِبرةِ والاختِصاصِ فيما أشكَلَ عليه مِنَ النَّوازِلِ المُعاصِرةِ، ويَتَثَبَّتَ ويَتَحَرَّى ويَتَأنَّى في النَّظَرِ للمَسألةِ مِن جَميعِ جَوانِبِها؛ لأنَّ النَّظَرَ القاصِرَ يَنشَأُ عنه الغَلَطُ والوَهمُ أحيانًا. فإذا كانتِ الواقِعةُ لها تَعَلُّقٌ بعِلمٍ مِنَ العُلومِ غَيرِ الشَّرعيَّةِ لزِمَ المُفتيَ الرُّجوعُ إلى أهلِ الاختِصاصِ والخِبرةِ في ذلك العِلمِ؛ لتَصويرِ الواقِعةِ، ومَعرِفةِ حَقيقَتِها، وأوصافِها، وآثارِها. فالواقِعةُ قد يَكونُ لها تَعَلُّقٌ بعِلمِ الطِّبِّ أوِ الاقتِصادِ أوِ الفلَكِ أوِ السِّياسةِ أوِ الإعلامِ أو غَيرِ ذلك مِنَ العُلومِ الأُخرى، فحينَئِذٍ يَرجِعُ المُجتَهدُ إلى أهلِ الاختِصاصِ والخِبرةِ في ذلك العِلمِ؛ لتَوصيفِ الواقِعةِ، وبَيانِ حَقيقَتِها، والمُلابَساتِ المُحيطةِ بها [2236] يُنظر: ((فقه النوازل للأقليات المسلمة)) لمحمد يسري (2/686)، ((الاجتهاد في مناط الحكم)) لبلقاسم الزبيدي (ص: 282). .

انظر أيضا: