المَسألةُ الثَّالِثةُ: البَيانُ بالفِعلِ وتَركِه
أوَّلًا: البَيانُ بالفِعلِالمُرادُ به فِعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كصَلاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّها بَيانٌ لقَولِ اللهِ تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة: 43] ، وكحَجِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه بَيانٌ لقَولِ اللهِ تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] .
ويَجوزُ البَيانُ بالفِعلِ، كما يَجوزُ بالقَولِ. وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ
، وحَكاه السَّرَخسيُّ عنِ الفُقَهاءِ وغَيرِهم
.
مِثالُه
: عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أمَّني جِبريلُ عِندَ البَيتِ مَرَّتَينِ، فصَلَّى بي الظُّهرَ حينَ زالَتِ الشَّمسُ على مِثلِ قَدرِ الشِّراكِ، ثُمَّ صَلَّى بي العَصرَ حينَ كان كُلُّ شَيءٍ قَدرَ ظِلِّه، وصَلَّى بي المَغرِبَ حينَ أفطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى بي العِشاءَ حينَ غابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى بي الفَجرَ حينَ حَرُمَ الطَّعامُ والشَّرابُ على الصَّائِمِ. ثُمَّ صَلَّى بي الظُّهرَ مِنَ الغَدِ حين كان كُلُّ شَيءٍ بقَدرِ ظِلِّه، ثُمَّ صَلَّى بي العَصرَ حينَ كان كُلُّ شَيءٍ مِثلَي ظِلِّه، ثُمَّ صَلَّى بي المَغرِبَ حينَ أفطَرَ الصَّائِمُ لوقتٍ واحِدٍ، ثُمَّ صَلَّى بي العِشاءَ حينَ ذَهَبَ ثُلثُ اللَّيلِ الأوَّلُ، ثُمَّ صَلَّى بي الفَجرَ ثُمَّ التَفتَ إليَّ، فقال: يا مُحَمَّدُ، إنَّ هذا وَقتُك ووَقتُ الأنبياءِ قَبلَك، والوَقتُ فيما بَينَ هَذينِ الوقتَينِ))
.
الأدِلَّةُ على جَوازِ البَيانِ بالفِعلِ:1- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، ولَم يُفرِّقْ بَينَ القَولِ والفِعلِ
.
2- ومِنَ الأَدلَّةِ كذَلكَ
: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّن مُجمَلَ الكِتابِ بالفِعلِ، مِثلُ الصَّلاةِ والحَجِّ، فبَيَّنَ أعدادَ الرَّكَعاتِ في الصَّلَواتِ المَفروضةِ وأوصافَها بفِعلِه، وهو بَيانٌ لقَولِ اللهِ تعالى:
وَأقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة: 43] .
كما أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ مَناسِكَ الحَجِّ بفِعلِه، وهذا بَيانٌ لقَولِه تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] .
وقد أكَّدَ ذلك بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((صَلُّوا كما رَأيتُموني أُصَلِّي))
، وقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((خُذوا عنِّي مَناسِكَكُم))
.
3- أنَّ البَيانَ عِبارةٌ عن إظهارِ المُرادِ؛ فرُبَّما يَكونُ ذلك بالفِعلِ أبلَغَ مِنَ البَيانِ بالقَولِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا أمَرَ أصحابَه بالحَلقِ عامَ الحُدَيبيَةِ لَم يَفعَلوا، ثُمَّ لَمَّا رَأوه حَلَق بنَفسِه حَلَقوا في الحالِ
؛ فدَلَّ على أنَّ إظهارَ المُرادِ يَحصُلُ بالفِعلِ كما يَحصُلُ بالقَولِ
.
وقيلَ: إنَّه لا يَجوزُ البَيانُ بالفِعلِ. نَقَلَه الشِّيرازيُّ عن بَعضِ الشَّافِعيَّةِ
، وحَكاه السَّرَخسيُّ عن بَعضِ المُتَكَلِّمينَ، فقال: (وقال بَعضُ المُتَكَلِّمينَ: لا يَكونُ البَيانُ إلَّا بالقَولِ، بناءً على أصلِهم أنَّ بَيانَ المُجمَلِ لا يَكونُ إلَّا متَّصِلًا به، والفِعلُ لا يَكونُ متَّصِلًا بالقَولِ)
.
ثانيًا: البَيانُ بتَركِ الفِعلِالتَّركُ وَسيلةٌ لبَيانِ الأحكامِ، كالفِعلِ؛ فكما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُبَيِّنُ الأحكامَ بالفِعلِ، كذلك كان يُبَيِّنُ الأحكامَ بالتَّركِ
.
الدَّليلُ:الوُقوعُ؛ فقد وقَعَ البَيانُ بالتَّركِ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عِدَّةِ مَواضِعَ، منها:
1- نَهيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الشُّربِ قائِمًا
، ثُمَّ تَرَكَ الجُلوسَ وشَرِبَ قائِمًا
.
2- أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالوُضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ
، وقد كان يَأكُلُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ ثُمَّ يُصلِّي ولا يَتَوضَّأُ
.