المَسألةُ الثَّالِثةُ: الاستِثناءُ الوارِدُ بَعدَ جُمَلٍ مُتَعاطِفةٍ
إذا ذُكِرَت جُمَلٌ، وعُطِف بَعضُها على بَعضٍ بحَرفِ العَطفِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعدَ هذه الجُمَلِ كُلِّها استِثناءً بـ (إلَّا) أو غَيرِها مِنَ الأدَواتِ، مِثلُ قَولِك: أنفِقْ على حُفَّاظِ القُرآنِ الكَريمِ، وأوقِفْ على طُلَّابِ العِلمِ إلَّا المُقيمينَ، فهَل يَرجِعُ هذا الاستِثناءُ إلى الجُمَلِ كُلِّها، أو يَختَصُّ بالأخيرةِ فقَط
؟
ولا بُدَّ هنا مِن بَيانِ الأُمورِ التَّاليةِ:
أوَّلًا: تَنقَسِمُ حُروفُ العَطفِ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
1- (الواوُ، والفاءُ، وثُمَّ، وحتَّى): وهذه هيَ التي يَتَأتَّى فيها الخِلافُ بَينَ الأُصوليِّينَ؛ لأنَّها تَجمَعُ بَينَ الشَّيئَينِ معًا في الحُكمِ، ويُمكِنُ الاستِثناءُ مِنهما أو أحَدِهما.
2- (بَل، ولا، ولَكِن): وهيَ لأحَدِ الشَّيئَينِ بعَينِه، نَحوُ: قامَ القَومُ لا النِّساءُ، و: بَل النِّساءُ. وما قامَ القَومُ لَكِن النِّساءُ. فالقائِمُ أحَدُ الفريقَينِ دونَ الآخَرِ بعَينِه، فيُمكِنُ أن يُقالَ: لا يُمكِنُ عَودُ الاستِثناءِ عليهما؛ لأنَّهما لَم يَندَرِجا في الحُكمِ، والعودُ عليهما يَقتَضي تَقدُّمَ الحُكمِ عليهما. ويُمكِنُ أن يُقالَ: إنَّهما مَعًا مَحكومٌ عليهما: إحداهما بالنَّفيِ، والأُخرى بالإثباتِ، فالمَنفيُّ ما بَعدَ (لا) وما قَبلَ (لَكِن، وبَل).
3- (أو، وإمَّا، وأم): وهيَ لأحَدِ الشَّيئَينِ لا بعَينِه، نَحوُ: قامَ القَومُ أوِ النِّساءُ، وإمَّا قامَ القَومُ وإمَّا النِّساءُ، أو هَل قامَ القَومُ أمِ النِّساءُ، فهاهنا المَحكومُ عليه واحِدٌ قَطعًا، ولَم يَتَعَرَّضْ للآخَرِ بالنَّفيِ ولا بالثُّبوتِ، فلا يَتَأتَّى الاحتِمالُ الذي في القِسمِ الثَّاني، بَل يَتَعَيَّنُ أن لا تَندَرِجَ هذه الجُمَلُ المَعطوفةُ بهذه الثَّلاثِ في صورةِ النِّزاعِ، والأَولى تَندَرِجُ قَطعًا، والثَّانيةُ فيها احتِمالٌ
.
ثانيًا: لا خِلافَ بَينَ الأُصوليِّينَ في عَودِ الاستِثناءِ إلى الجُملةِ الأخيرةِ؛ فإنَّه يَرجِعُ إليها اتِّفاقًا.
ثالِثًا: لا خِلافَ في أنَّه يَجوزُ عَودُ الاستِثناءِ إلى جَميعِ الجُمَلِ، أو قَصرُه على بَعضِها، مُتَقدِّمةً كانتِ الجُملةُ أو مُتَأخِّرةً، عِندَ وُجودِ القَرينةِ الدَّالَّةِ على ذلك.
فمِن أمثِلةِ عَودِه إلى الجُملةِ الأولى وحدَها باتِّفاقٍ: قَولُ اللهِ تعالى:
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة: 249] .
فإنَّ هذا الاستِثناءَ مُختَصٌّ بالجُملةِ الأولى، وهيَ:
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، ولا يَجوزُ أن يَكونَ عائدًا إلى الأخيرةِ، وهيَ قَولُه:
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي؛ إذِ التَّقديرُ حينَئِذٍ: إلَّا مَنِ اغتَرَف غُرفةً بيَدِه فليس مِنِّي، والمَعنى على خِلافِ ذلك.
ولا يُمكِنُ أن يَكونَ التَّقديرُ: إلَّا مَنِ اغتَرَف غُرفةً بيَدِه فإنَّه مِنِّي، على هذا التَّقديرِ؛ لأنَّه لا يُعقَلُ استِثناءٌ حينَئِذٍ؛ إذِ المُستَثنى لا بُدَّ أن يُغايِرَ حُكمُه حُكمَ المُستَثنى مِنه.
ومِن أمثِلةِ عَودِه إلى الأخيرةِ باتِّفاقٍ: قَولُ اللهِ تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 4-5] ، فالِاستِثناءُ هنا راجِعٌ إلى الجُملةِ الأخيرةِ بلا خِلافٍ.
ومِن أمثِلةِ عَودِه إلى الجَميعِ باتِّفاقٍ: قَولُ اللهِ تعالى:
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا [الفرقان: 68 - 71] ؛ فإنَّه استِثناءٌ مِنَ الجَميعِ؛ لأنَّ التَّوبةَ تُقبَلُ مِنَ الجَميعِ اتِّفاقًا.
وإنَّما الخِلافُ بَينَ الأُصوليِّينَ عِندَ عَدَمِ وُجودِ قَرائِنَ
.
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ الاستِثناءَ الوارِدَ بَعدَ جُمَلٍ مُتَعاطِفةٍ يَعودُ إلى جَميعِها إلَّا أن تَقومَ دَلالةٌ على المَنعِ مِنه.
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى في شَهادةِ القاذِفِ:
وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 4-5] ، فجَعَلَ الاستِثناءَ راجِعًا إلى جَميعِ ما تَقدَّمَ مِنَ الفِسقِ وقَبولِ الشَّهادةِ.
وهو مَنقولٌ عنِ الأئِمَّةِ: مالِكٍ
، والشَّافِعيِّ
، وأحمَدَ
، وهو قَولُ مَذهَبِ المالِكيَّةِ
، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
، وابنِ حَزمٍ الظَّاهِريِّ
.
واشتَرَطَ الشَّافِعيَّةُ لذلك شُروطًا:
1- أن تَكونَ الجُمَلُ مَعطوفةً، فإن لَم يَكُنْ عَطفًا، فلا يَعودُ إلى الجَميعِ قَطعًا، بَل يَختَصُّ بالأخيرةِ؛ إذ لا ارتِباطَ بَينَ الجُملَتَينِ.
2- أن يَكونَ العَطفُ بالواوِ، فإن كان بــ (ثُمَّ) اختَصَّ بالأخيرةِ.
3- ألَّا يَتَخَلَّلَ بَينَ الجُملَتَينِ كَلامٌ طَويلٌ، فإن تَخَلَّلَ اختَصَّ بالأخيرةِ
.
4- اشتَرَطَ القَفَّالُ الشَّاشيُّ أن يُمكِنَ عَودُه إلى كُلِّ واحِدةٍ على انفِرادِها؛ فإن تَعَذَّر عادَ إلى ما أمكَنَ، أوِ اختَصَّ بالجُملةِ الأخيرةِ.
قال: (وهذا كَآيةِ الجَلدِ، فلا يُمكِنُ عَودُ الاستِثناءِ فيها إلى الأوَّلِ؛ لأنَّه تَعَلَّقَ به حَقُّ آدَميٍّ؛ ولهذا لا يَسقُطُ عنه الجَلدُ بالتَّوبةِ، وإن قُبِلَت شَهادَتُه، وزالَت عنه سِمةُ الفِسقِ؛ لأنَّه مِن حُقوقِ الآدَميِّينَ، فالتَّوبةُ لا تَرفَعُه، إنَّما تَرفَعُ حَقَّ اللهِ تعالى)
.
الأدِلَّةُ:1- أنَّ الاستِثناءَ رَفعٌ لحُكمِ كَلامٍ مُتَقدِّمٍ قد تَعَلَّقَ بَعضُه ببَعضٍ حتَّى صارَ كالكَلِمةِ الواحِدةِ، فوجَبَ أن يَكونَ راجِعًا إلى جَميعِه؛ إذ ليس بَعضُه بالرُّجوعِ إليه أَولى مِن بَعضٍ.
ومِمَّا يُبَيِّنُ ذلك أنَّ اللَّهَ تعالى قال:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 14] ، فكان الاستِثناءُ عامًّا في جَميعِ ما تَقدَّم؛ إذ لَم يَكُنْ بَعضُ السِّنينَ برُجوعِ ذلك إليه أَولى مِن بَعضٍ؛ لأنَّ جَميعَ ذلك مُرتَبِطٌ بَعضُه ببَعضٍ
.
2- أنَّ الاستِثناءَ كالشَّرطِ في التَّخصيصِ، والشَّرطُ يَرجِعُ إلى جَميعِ ما تَقَدَّم ذِكرُه، فكذلك الاستِثناءُ.
يُبَيِّنُ هذا أنَّ الاستِثناءَ في مَعنى الشَّرطِ مِن جَميعِ الوُجوهِ؛ لأنَّ الاستِثناءَ لا يَستَقِلُّ بنَفسِه، ولا يُفيدُ مَعنًى إلَّا بالبِناءِ على المُستَثنى، كما لا يَستَقِلُّ الشَّرطُ بنَفسِه، ولا يُفيدُ مَعنًى إلَّا بالبِناءِ على المَشروطِ؛ فكانا سَواءً
.
3- أنَّ المَعطوفَ بالواوِ بمَنزِلةِ المَجموعِ بلَفظٍ واحِدٍ؛ لأنَّ الواوَ توجِبُ الجَمعَ والتَّشريكَ، كألفاظِ الجُموعِ؛ ولهذا لا فَرقَ بَينَ أن يَقولَ: (اقتُلوا المُشرِكينَ) وبَينَ أن يَقولَ: (اقتُلوا اليَهودَ والنَّصارى والمَجوسَ وعَبَدةَ الأوثانِ).
ثُمَّ ثَبَتَ وتَقَرَّرَ أنَّ الاستِثناءَ إذا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَذكورةً بلَفظٍ واحِدٍ كان راجِعًا إلى جَميعِ الجُمَلِ، مِثلُ أن يَقولَ: (اقتُلوا المُشرِكينَ إلَّا مَن أدَّى الجِزيةَ)، فكذلك إذا تَعَقَّبَ جُملًا مَذكورةً بألفاظٍ، كقَولِه: (اقتُلوا اليَهودَ والنَّصارى والمَجوسَ إلَّا مَن أدَّى الجِزيةَ) وجَبَ أن يَرجِعَ إلى جَميعِ الجُمَلِ
.
4- أنَّه لَو قال: (لفُلانٍ عليَّ خَمسةٌ وخَمسةٌ إلَّا سَبعةً) كان الاستِثناءُ هاهنا عائِدًا إلى الجُملَتَينِ؛ لأنَّه لو كان مختَصًّا بالجُملةِ الأخيرةِ لَما صَحَّ؛ لكَونِه مُستَغرِقًا لها، والأصلُ في الكَلامِ الحَقيقةُ، وإذا ثَبَتَ ذلك في هذه الصُّورةِ فكَذا في غَيرِها؛ دَفعًا للِاشتِراكِ
.
وقيلَ: إنَّه يَعودُ إلى الجُملةِ الأخيرةِ خاصَّةً، إلَّا أن يَقومَ الدَّليلُ على التَّعميمِ.
مِثلُ: قَولِ اللهِ تعالى في القاذِفِ:
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور: 4-5] ، فالِاستِثناءُ إنَّما عَمِلَ في إزالةِ سِمةِ الفِسقِ عنِ القاذِفِ بالتَّوبةِ، ولَم يُؤَثِّرْ في جَوازِ الشَّهادةِ، ولا في زَوالِ الحَدِّ
.
وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
، واختارَه الرَّازيُّ في (المَعالِمِ)
، وقال المَجدُ ابنُ تيميَّةَ: (هو الأقوى)
.
وقيلَ: بالتَّوقُّفِ بَينَ الأمرَينِ، فيَجوزُ أن يَرجِعَ إلى الكُلِّ، ويَجوزُ أن يَرجِعَ إلى البَعضِ، سَواءٌ كان ذلك البَعضُ يَليه أو لا يَليه، والمُتَّبعُ الدَّليلِ، فإن قامَ دَليلٌ على انصِرافِه لأحَدِها صِرنا إليه.
وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ
، والأشعَريَّةِ
، وبه قال الباقِلَّانيُّ
، وقال الغَزاليُّ: (هذا هو الأحَقُّ)
.
قال الفَناريُّ: (هم كالحَنَفيَّةِ في الحُكمِ، وهو عَدَمُ الرَّدِّ إلى غَيرِ الأخيرةِ بلا قَرينةٍ، لا في التَّخريجِ؛ لأنَّ عَدَمَ ظُهورِ التَّناوُلِ غَيرُ ظُهورِ عَدَمِ التَّناوُلِ)
.
وقيلَ: إن كانتِ الجُملةُ الثَّانيةُ تَتَضَمَّنُ إضرابًا عنِ الأولى كان الاستِثناءُ مختَصًّا بالجُملةِ الأخيرةِ، وإلَّا انصَرَف إلى الجَميعِ. وهو قَولُ بَعضِ المُعتَزِلةِ
، واختارَه القاضي عَبدُ الجَبَّارِ
، وابنُ السَّمعانيِّ
، وابنُ بَرْهانَ
.
والإضرابُ إنَّما يَتَحَقَّقُ باختِلافِ الجُملَتَينِ:
بالنَّوعِ: بأن تَكونَ إحداهما طَلَبًا، والأُخرى خَبَرًا. مِثلُ أن يُقالَ: جاءَ القَومُ، وأكرِمْ بَني تَميمٍ إلَّا الطِّوالَ.
أو باختِلافِهما اسمًا، ولا يَكونُ الاسمُ في الجُملةِ الثَّانيةِ ضَميرًا للِاسمِ في الجُملةِ الأولى. مِثلُ: أكرِمْ بَني تَميمٍ، وأهِنْ بَني خالِدٍ إلَّا الطِّوالَ.
ومِثالُ ما يَكونُ الاسمُ الثَّاني ضَميرَ الأوَّلِ: أكرِمْ بَني تَميمٍ واستَأجِرْهم إلَّا الضُّعَفاءَ.
أو باختِلافِهما حُكمًا، ولا تَكونُ الجُملَتانِ مُشترِكَتَينِ في غَرَضٍ. نَحوُ: أكرِمْ بَني تَميمٍ، واستَأجِرْ بَني تَميمٍ إلَّا الضُّعَفاءَ.
ومِثالُ ما تَكونُ الجُملَتانِ مُشتَرِكَتَينِ في غَرَضٍ: أكرِمِ الضَّيفَ، وتَصَدَّقْ على الفُقَراءِ إلَّا الفاسِقَ؛ فإنَّهما مُشتَرِكَتانِ في غَرَضٍ، وهو الحَمدُ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَظهَرُ أثَرُ هذه المَسألةِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- قَبولُ شَهادةِ المَحدودِ في القَذفِ:قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 4 - 5] .
في هذه الآيةِ ورَدَ الاستِثناءُ بَعدَ ثَلاثِ جُمَلٍ مُتَعاطِفةٍ، وهيَ:
فَاجْلِدُوهُمْ، و
وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، و
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، فتَضَمَّنَتِ الآيةُ أنَّ القَذفَ مُتَعَلِّقٌ به ثَلاثةُ أحكامٍ: وُجوبُ الحَدِّ، ورَدُّ الشَّهادةِ، وثُبوتُ الفِسقِ.
وقدِ اتَّفقَ الفُقَهاءُ على أنَّ القاذِفَ إذا لم يَتُبْ وحُدَّ للقَذفِ لَم تُقبَلْ شَهادَتُه بَعدَ ذلك، واختَلَفوا في قَبولِ شَهادَتِه بَعدَ التَّوبةِ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ مَن تابَ قُبِلَت شَهادتُه، وارتَفَعَت عنه سِمةُ الفِسقِ. وهو قَولُ الجُمهورِ
.
القَولُ الثَّاني: أنَّ التَّوبةَ لا تُسقِطُ عنه عَدَمَ قَبولِ الشَّهادةِ، بَل إنَّ شَهادَتَه تبقى مَردودةً، وإنَّما تَرفَعُ التَّوبةُ عنه وَصفَ الفِسقِ فقَط. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
.
واتَّفقَ أصحابُ القَولَينِ على أنَّ التَّوبةَ لا تَرجِعُ إلى الحَدِّ، وهو الجَلدُ، مَعَ اختِلافِهما في التَّعليلِ؛ فعِندَ الحَنَفيَّةِ: لبُعدِه عن أقرَبِ مَذكورٍ.
وعِندَ الجُمهورِ: لخُروجِه بدَليلٍ، وهو أنَّ حَدَّ القَذفِ مِن حُقوقِ الآدَميِّينَ التي لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ
.
فمَن قال بالقَولِ الأوَّلِ فقد بَناه على أنَّ الاستِثناءَ إذا تَعَقَّبَ جُمَلًا يَصلُحُ أن يَكونَ عائِدًا إلى كُلِّ واحِدٍ منها على الانفِرادِ؛ فإنَّه يَعودُ إلى جَميعِها.
ومَن قال بالقَولِ الثَّاني فقد بَناه على أنَّ الاستِثناءَ في الآيةِ يَعودُ إلى أقرَبِ مَذكورٍ، وهو الجُملةُ الأخيرةُ فقَط
.
ورَجَّحَ القُرطُبيُّ مَذهَبَ الجُمهورِ، وعَلَّله بأنَّ الأُمَّةَ مُجمِعةٌ على أنَّ التَّوبةَ تَمحو الكُفرَ، ومِن ثَمَّ تُقبَلُ شَهادةُ الكافِرِ بَعدَ إسلامِه إجماعًا، فيَجِبُ أن تَمحوَ الفِسقَ الذي هو دونَ الكُفرِ مِن بابِ الأَولى.
وأيضًا فإنَّ الزَّانيَ إذا تابَ تُقبَلُ شَهادَتُه، وليس مَن نَسَبَ غَيرَه إلى الزِّنا بأعظَمَ جُرمًا مِمَّن زَنى.
وأيضًا فإنَّ اللَّهَ تعالى قَبِلَ تَوبةَ القاذِفِ، فيَجِبُ أن تُقبَلَ مِن طَرَفِ المَخلوقينَ مِن بابِ الأَولى
.
2- إذا قال: عَليَّ ألفُ دِرهَمٍ، ومِائةُ دينارٍ إلَّا خَمسينَ.فإن أرادَ بالخَمسينَ المُستَثناةِ جِنسًا غَيرَ الدَّراهمِ والدَّنانيرِ، قُبِلَ مِنه، وكذلك إن أرادَ أحَدَ الجِنسَينِ مِنَ الدَّراهمِ أوِ الدَّنانيرِ، أو أرادَ عودَه إلى الجِنسَينِ مَعًا.
وإن ماتَ قَبلَ البَيانِ عادَ إلى المالَينِ المَذكورينِ مِنَ الدَّراهمِ والدَّنانيرِ عِندَ الجُمهورِ، خِلافًا لأبي حَنيفةَ؛ لأنَّه يَحتَمِلُ ذلك، والأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ.
وإذا عادَ إليهما فهل يَعودُ إلى كُلٍّ مِنهما جَميعُ الاستِثناءِ، فيُستَثنى مِنَ الألفِ دِرهَمٍ خَمسونَ، ومِنَ المِئةِ دينارٍ خَمسونَ، أو يَعودُ إليهما نِصفَينِ، فيُستَثنى مِنَ الدَّراهمِ خَمسةٌ وعِشرونَ، ومِنَ الدَّنانيرِ خَمسةٌ وعِشرونَ؟ فيه وجهانِ، وصَحَّحَ الرُّويانيُّ الأوَّلَ
.