الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الرَّابعُ: بَيعُ خُبزِ البُرِّ بالبُرِّ، وخُبزِ الشَّعيرِ بالشَّعيرِ


اختلَفَ العُلماءُ في حُكمِ بَيعِ خُبزِ البُرِّ بالبُرِّ، وخُبزِ الشَّعيرِ بالشَّعيرِ؛ على قَولَينِ:
القولُ الأوَّلُ: يَجوزُ بَيعُ خُبزِ البُرِّ بالبُرِّ، وخُبزِ الشَّعيرِ بالشَّعيرِ مُتفاضِلًا أو مُتماثِلًا، وهو مَذهَبُ الحَنفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزَّيلَعي (4/95)، ((البحر الرائق)) لابن نُجيم (6/146)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/182)، ((الفتاوى الهندية)) (3/118). والمالِكيَّةِ ((الكافي)) لابن عبد البر (2/651)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (4/355)، ((شرح الزُّرْقاني على مختصر خليل)) (5/124). ، واخْتارَه ابنُ تيميَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (ويجوزُ بيعُ المَصوغِ منَ الذَّهبِ والفِضَّةِ بجنسِه مِن غيرِ اشْتراطِ التَّماثُلِ، ويُجعَلُ الزَّائدُ في مُقابَلةِ الصِّيغةِ ليس برِبًا، ولا بجِنسٍ بنفْسِه، فيُباعُ خُبزٌ بهَريسةٍ، وزَيتٌ بزَيتونٍ، وسِمسمٌ بشَيْرجٍ. والمعمولُ منَ النُّحاسِ والحديدِ -إذا قُلْنا: يَجْري الرِّبا فيه- يَجْري في مَعمولِه إذا كان يُقصَدُ وَزنُه بعدَ الصَّنعةِ، كثيابِ الحريرِ والأسْطالِ ونحوِها، وإلَّا فلا) ((الفتاوى الكبرى)) (5/391، 392). وابنُ القيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ: (فإنْ قيلَ: فيَلزَمُكم على هذا أنْ تُجَوِّزوا بيعَ فُروعِ الأجْناسِ بأُصولِها مُتفاضِلًا، فجَوَّزوا بيعَ الحِنطةِ بالخُبزِ مُتفاضِلًا، والزَّيتِ بالزَّيتونِ، والسِّمسمِ بالشَّيْرجِ. قيلَ: هذا سؤالٌ واردٌ أيضًا، وجوابُه: أنَّ التَّحريمَ إنَّما يَثبُتُ بنصٍّ أو إجماعٍ، أو تكونُ الصُّورةُ المُحرَّمةُ بالقياسِ مُساويةً من كلِّ وجْهٍ للمَنصوصِ على تَحْريمِها، والثَّلاثةُ مُنتَفيةٌ في فُروعِ الأجْناسِ معَ أُصولِها... ولم يَحرُمْ بَيعُه بجنسٍ آخَرَ وإنْ كان جِنسُهما واحدًا؛ فلا يَحرُمُ السِّمسمُ بالشَّيْرجِ، ولا الهَريسةُ بالخُبزِ؛ فإنَّ هذه الصِّناعةَ لها قِيمةٌ؛ فلا تَضيعُ على صاحِبِها، ولم يَحرُمْ بيعُها بأُصولِها في كتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا إجماعٍ ولا قياسٍ، ولا حرامَ إلَّا ما حرَّمَه اللهُ) ((إعلام الموقعين)) (2/111).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ الخُبزَ بالصَّنعةِ صارَ جِنسًا آخَرَ حتَّى خرَجَ مِن أنْ يكونَ مَكيلًا، والبُرُّ والدَّقيقُ مَكيلٌ، فلم يَجمَعْهما القَدْرُ ولا الجِنسُ، حتَّى جازَ بَيعُ أحَدِهما بالآخَرِ نَسيئةً إذا كانتِ الحِنْطةُ هي المتأخِّرةَ؛ لإمْكانِ ضَبطِها يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (4/95)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (4/355).
ثانيًا: لأنَّ الحِنطةَ كَيْليَّةٌ، والدَّقيقُ والخُبزُ وَزْنيَّانِ، فيَجوزُ بَيعُ أحَدِهما بالآخَرِ مُتفاضِلًا ومُتَساويًا إذا كانَا نَقدَينِ، وإنْ كان أحَدُهما نَسيئةً، إذا كان الخُبزُ نَقدًا، جازَ أيضًا يُنظر: ((الفتاوى الهندية)) (3/118).
القولُ الثَّاني: لا يَجوزُ بَيعُ خُبزِ البُرِّ بالبُرِّ، وخُبزِ الشَّعيرِ بالشَّعيرِ مُتفاضِلًا أو مُتماثِلًا، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/281)، ويُنظَر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (5/130)، ((المجموع)) تكملة السُّبكي (11/122). ، والحَنابِلةِ يُنظر: ((كشَّاف القناع)) للبُهُوتي (3/256). ، ورِوايةٌ عن أبي حَنيفةَ يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيلَعي (4/95). ، واخْتارَه ابنُ عُثَيمينَ احْتياطًا قال ابنُ عُثَيمينَ: (الدَّقيقُ جنسٌ باعتبارِ الأصْلِ، وكذلك أيضًا الأخبازُ، فإذا أردْتَ أنْ تَبيعَ خُبزًا منَ البُرِّ بجَريشٍ -والجَريشُ عبارةٌ عن حَبٍّ لكنَّه مَطحونٌ، ليْس طَحنًا دقيقًا يُطبَخُ- فهذا لا يَجوزُ؛ لتَعذُّرِ التَّساوي... وقال شيخُ الإسلامِ رحمَه اللهُ: ما صُنِعَ من هذه الأجناسِ؛ فإنْ خرَجَ عنِ القُوتِ بسَببِ هذا الصُّنعِ، خرَجَ عن كَونِه رِبويًّا؛ بناءً على أنَّ العلَّةَ في الرِّبا هي كونُه قُوتًا، وإنْ لم يَخرُجْ فهو جنسٌ مُستقِلٌّ ليس تابعًا لأصْلِه، وعلى هذا فيَجوزُ أنْ أبِيعَ خُبزًا منَ البُرِّ بجَريشٍ منَ البُرِّ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما اختلَفَ اختلافًا بيِّنًا، لا بالنِّسبةِ لأكْلِه ولا بالنِّسبةِ للقَصدِ منه، فيكونُ جنسًا مُستقِلًّا، ولكنَّ الاحْتياطَ ما ذهَبَ إليه المؤلِّفُ رحمَه اللهُ؛ لعمومِ قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البُرُّ بالبُرِّ مِثلًا بمثلٍ»، وهذا يعُمُّ البُرَّ على أيِّ حالٍ كان، «والشَّعيرُ بالشَّعيرِ» كذلك يعُمُّ الشَّعيرَ على أيِّ حالٍ) ((الشرح الممتع)) (8/408).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لاخْتلافِ وتَفاوُتِ تأْثيرِ النَّارِ في الخُبزِ يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/26).
ثانيًا: لأنَّه لا يُمكِنُ العلمُ بالمُماثَلةِ، والجَهلُ بالمُماثَلةِ كالعلمِ بالمُفاضَلةِ يُنظر: ((الإقناع)) للشِّربيني (2/282)، ((كشَّاف القناع)) للبُهوتي (3/256).

انظر أيضا: